الدستور لا يعرف الفقيه

الدستور لا يعرف الفقيه

الدستور لا يعرف الفقيه

 العرب اليوم -

الدستور لا يعرف الفقيه

محمد الرميحي
بقلم - محمد الرميحي

في ستينات القرن الماضي، كانت القاهرة التي انتعش فيها المسرح محط توقف كثير من النخب العربية، وقتها عرضت رواية مسرحية من تأليف عبد المنعم مدبولي وسمير خفاجي، وبسبب نجاحها تحولت إلى فيلم كوميدي بعد ذلك. البطولة في الرواية والفيلم للثنائي فؤاد المهندس وشويكار، واسم الرواية «أنا وهو وهي». في أحد المشاهد يشتد الخلاف بين البطل وبين أحد الممثلين حول تفسير قانوني، فيقول الممثل للبطل: «إن زينب بتقول كده» ويكرر ما تقوله زينب، فيغضب البطل ويقول مشيراً إلى كتاب القانون بيده وبصوت زاعق: «القانون مافيهوش زينب»!
بقيت تلك العبارة على لسان جيل كامل، وهي تشير إلى محاولات التفسير المنحرف للقانون أو تحميله ما ليس فيه. تذكرت تلك العبارة وأنا أسمع السيد عادل عبد المهدي رئيس الوزراء العراقي، يتلو نص استقالته، فيشير أول ما يشير في أسباب استقالته، إلى «رغبة وتوجيه المرجعية»، ثم يسرد الأحداث الأخرى المسببة للاستقالة.
حزنت كثيراً لذلك؛ لأن الدستور العراقي الحالي ليس فيه نص حول «المرجعية» مع الاحترام للأشخاص، «فالقانون مافيهوش زينب»! ومع اختلاف المشهدين، إلا أن الرمزية قائمة، فطوال تاريخ الحكم الدستوري العراقي بأشكاله المختلفة الحقيقية والسطحية في زمن الملكيات أو الانقلابات، لم يكن هناك نص يتيح للمرجعية موقف الفصل في السياسة. إلا أن الفكرة سادت منذ عقود في أكثر من عاصمة عربية، وهي العودة إلى المرجعية في الصغيرة والكبيرة من أعمال السياسة والحكم، وهي ظاهرة جديدة جاءت مع النسخة الإيرانية الحالية في الحكم؛ حيث لا مشروع لإقامة الدولة؛ بل مشروع لإقامة السلطة المتوحشة باسم الدين، والتي رغبت في تعميمها قسراً على الجوار من خلال ميليشيات تخوف الطبقة الحاكمة وتبتزها. ذاك ما يحدث اليوم في بعض عواصمنا ويقود إلى العجب.
العاصمة العربية الثانية التي يتحكم في سير أعمالها السياسية «نائب المرجعية» هي بيروت، رغم وجود دستور لبناني منذ قبل مائة عام تقريباً وتعديلاته (أول صدور للدستور كان في عام 1926) لم يأتِ لا من قريب ولا من بعيد على فكرة «إشراف نائب الولي» على مجمل السياسة اللبنانية، كما حدث عندما نصّب حسن نصر الله نفسه مرشداً للجمهورية اللبنانية.
وبمجرد أن نهض الشعب اللبناني مؤخراً كاسراً عدداً من الحواجز الطائفية، ومطالباً بأن يعيش كبقية سكان العالم بحرية، خرج علينا حسن نصر الله يحدد ما يجب أن يتم في السياسة وما لا يتم، مهدداً: «من يترك الحكومة يجب أن يحاكم»، و«الحكومة باقية والعهد ما فيكم تسقطوه»! في تهديد مبطن باستخدام العنف، أو واعداً تارة أخرى بحلول اقتصادية، كما قال في إحدى خطبه حول الاستعانة بالصين لإنقاذ الوضع الاقتصادي اللبناني المتدهور «بسبب تدخله في السياسة»، وكأن الصين صندوق ائتمان أو مؤسسة للبر والإحسان. طبعاً قول لا ينتمي إلى السياسة أو العقل الاقتصادي.
وهكذا أصبح السيد ميشال عون الرئيس اللبناني، وبسبب تحالفه الملتبس مع «حزب الله» يدفع من رصيد عهده الذي وعد بأن يكون العهد «القوي» فاتورة تحكم «نائب الولي» في السياسة اللبنانية، وليست له قدرة على الفرار من تلك المصيدة التي دخلها، فهو وحليفه مستميتان بأن يبقيا في الحكومة تمثيلاً لسلطتهما حتى لو غرق لبنان، وهو ليس بعيداً مع الأسف عن الغرق، على الأقل الاقتصادي.
ذلك ما يراد له أن يحدث في اليمن، من جديد تسلط فئة صغيرة على شعب كامل تحت مقولة «العودة إلى الماضي» وإحياء مرحلة تاريخية اندثرت، هي سلطة الإمامة، تحت شعار «أنصار الله»، وكأنهم الوحيدون في اليمن الذين يعرفون الله!
ليس بعيداً عن هذا المقام ما يحدث في تونس وفي السودان؛ فالأولى تشارك فيها قوى تستند إلى الإسلام السياسي المؤدلج في السلطة، وتهدر وقت الجمهور بتسمية رئيس وزراء من صفها الثاني لتشكيل الحكومة، التي لا يبدو أنها سوف ترى النور، فالحركة باستنادها إلى أفكار الإسلام السياسي تفتقر إلى قراءة المطالب الحياتية العصرية للشعب التونسي، وهي في مقام لا تحسد عليه، فإن استجابت لمطالب العصر فقدت «قواعدها» التي بنتها على آمال قريبة إلى الخرافة، وإن بقيت مع ما بثته من أفكار لتلك القواعد، فقدت علاقتها بالعصر، وفي الحالتين سيستمر شقاء قطاع واسع من الشعب التونسي. يكفي أن نشير إلى أن أدبيات «النهضة» من موقع «غائب عن العصر»، فهي تشجب صناعة السياحة في تونس، وهي صناعة كانت تدر على تونس ثلث دخلها بالعملة الصعبة منذ سنوات قليلة خلت.
أما في السودان، فقد قررت الحكومة الجديدة إلقاء كل تلك القوانين التي قال واضعوها إنها تستمد روحها من الشريعة، وكانت في الحقيقة قوانين قمعية تتيح للنظام السابق التحكم في أنفاس السودانيين وحركتهم، وحتى شكل ملابسهم، وليس فقط في معيشة المواطن السوداني!
لم يعد النقاش في فضائنا العربي ينتمي إلى النقاش العالمي، في البحث عن مأسسة الحكم الرشيد، والنمو الاقتصادي، وتجويد التعليم، والدخول في سباق الابتكار؛ بل أصبح مركزاً على الهويات الصغرى الطائفية المتنازعة التي أفرزتها «الموجة الإيرانية» وارتداداتها المختلفة في فضائنا العربي. ويتغذى على مرجعيات لا تنتمي إلى العصر.
يبدو أن الجمهور العربي بشكل عام، ولكن بشكل خاص في العراق ولبنان، يبحث الآن عن عقد اجتماعي جديد، يتجاوز كل إفرازات «الموجة الإيرانية»، عقد يتساوى فيه المواطنون في التكليف والتشريف، تكون السيادة فيه للشعب دون وصاية من أي نوع، أكانت تراثية أو غيرها، وتقتلع منه جذور الفساد، وتنزع منه سلطان الترهيب التراثي القائم على الموروث الجاهلي أو التجهيلي، ومنفك من قيود التشريع التاريخية ذات الانتماء للماضي، التي تقود الناس إلى الخوف ثم إلى الصمت.
من نافلة القول، أن التشريع الإنساني يخضع للأحوال المستجدة والمصالح المطلقة والمتغيرة للناس.
لقد كانت المرحلة السابقة في الممارسة السياسية في كل من العراق ولبنان مرحلة كابوسية، بكل ما تعنيه الكلمة. وما الأثمان الباهظة التي تدفع اليوم في أكثر من أرض عربية إلا محاولة للخروج من ذلك الكابوس، باتجاه الدولة المدنية.
لا يقول أحد إن الطريق سهلة أو ممهدة، فكثير من العقبات أمام ذلك الهدف، إلا أنها طريق سارتها شعوب في هذا العالم ووصلت، وليس الشعب العربي بأقل قدرة أو تصميماً منها.
لب المعركة تنزيل السلطة السياسية منزلة الناس، ووضعها تحت المساءلة، وانتهاء العصمة لبشر إن قُبلت فقد تكون أخطاؤهم مدمرة.

آخر الكلام:
عنوان المرحلة العبور من عباءة العصمة التي أدخلت كثيرين في مرحلة العتمة إلى دستور حديث يضمن حرية الأوطان والمواطنين!

 

arabstoday

GMT 00:23 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

إسرائيل و«حزب الله».. سيناريو ما بعد التوغل

GMT 00:28 2024 الخميس ,13 حزيران / يونيو

مكاشفات غزة بين معسكرين

GMT 00:37 2024 الخميس ,16 أيار / مايو

التطبيع بعد القمة!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الدستور لا يعرف الفقيه الدستور لا يعرف الفقيه



إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الفخامة والحداثة بأسلوب فريد

عمّان ـ العرب اليوم

GMT 07:58 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تحوّل جذري في إطلالات نجوى كرم يُلهب السوشيال ميديا
 العرب اليوم - تحوّل جذري في إطلالات نجوى كرم يُلهب السوشيال ميديا

GMT 07:25 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية راقية تجمع بين الطبيعة الساحرة وتجارب الرفاهية
 العرب اليوم - وجهات سياحية راقية تجمع بين الطبيعة الساحرة وتجارب الرفاهية

GMT 07:39 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

كيف تختار الأثاث المناسب لتحسين استغلال المساحات
 العرب اليوم - كيف تختار الأثاث المناسب لتحسين استغلال المساحات

GMT 13:15 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

بايدن يؤكد العمل على وقف حرب غزة وإقصاء حماس عن السلطة
 العرب اليوم - بايدن يؤكد العمل على وقف حرب غزة وإقصاء حماس عن السلطة

GMT 08:12 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

التغذية السليمة مفتاح صحة العين والوقاية من مشاكل الرؤية
 العرب اليوم - التغذية السليمة مفتاح صحة العين والوقاية من مشاكل الرؤية

GMT 12:55 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

دينا الشربيني ورانيا يوسف تستعدّان للقائهما الأول على المسرح
 العرب اليوم - دينا الشربيني ورانيا يوسف تستعدّان للقائهما الأول على المسرح

GMT 08:36 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته

GMT 02:40 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

القهوة والشاي الأسود تمنع امتصاص الحديد في الجسم

GMT 06:59 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

فلسطين و«شبّيح السيما»

GMT 07:22 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

دراسة تحذر من أن الأسبرين قد يزيد خطر الإصابة بالخرف

GMT 09:52 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

كفاءة الحكومة

GMT 06:45 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

لبنان يقترب من وقف النار

GMT 10:19 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

جهود هوكستين: إنقاذ لبنان أم تعويم «حزب الله»؟

GMT 16:54 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

روسيا تتعاون مع الحوثيين لتجنيد يمنيين للقتال في أوكرانيا

GMT 02:58 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

11 شهيدًا في غارات للاحتلال الإسرائيلي على محافظة غزة

GMT 06:56 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

فرصة إيرانية ــ عربية لنظام إقليمي جديد

GMT 19:23 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

ميادة الحناوي تحيي حفلتين في مملكة البحرين لأول مرة

GMT 03:09 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

عدوان جوي إسرائيلي يستهدف الحدود السورية اللبنانية

GMT 07:58 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

اندلاع حريق ضخم في موقع لتجارب إطلاق صواريخ فضائية في اليابان

GMT 07:53 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

ألمانيا تحاكم 4 أشخاص بزعم الانتماء لـ "حماس"

GMT 06:54 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

النموذج السعودي: ثقافة التحول والمواطنة

GMT 07:10 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

تحذير أممي من تفشي العنف الجنسي الممنهج ضد النساء في السودان
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab