بقلم - عماد الدين أديب
تدرك موسكو أن مهمتها في سوريا لم تصبح أكثر يسراً وسهولة بعد قرار واشنطن سحب جميع قواتها من الأراضي، بل على العكس من ذلك تماماً، فقد بات يتعين على الكرملين أن ينسق شبكة معقدة من العلاقات والمصالح المتناقضة والمتداخلة بين حلفائه وشركائه، وأن القرار الأمريكي الأحادي قد ترك حقلاً من الألغام التي يتعين تفكيك كل واحد منها بدقة متناهية.
اللغم الموقوت الأخطر والأهم، الذي يتعين على «القيصر» تفكيكه، يتمثل في تركيا، التي شهدت علاقاتها مع واشنطن تحسناً ملموساً ومفاجئاً، بعد فترات طويلة من الشدّ والجذب... موسكو تراقب بقلق المحاولة الأمريكية لاحتواء تركيا ومنعها من الاقتراب والتقرب من روسيا، وربما إن أمكن، تعطيل صفقة الإس 400 المبرمة بين البلدين، وإعادة توظيف الثقل التركي لتنفيذ أهداف السياسة الأمريكية في سوريا، ومن ضمنها تقليص النفوذين الإيراني والروسي ومواصلة الحرب على داعش ومنع عودتها.
المهمة ليست سهلة أبداً، فتركيا بعد قرار واشنطن تنفيذ «انسحاب بطيء ومنسق» معها، تستشعر «فائض قوة»، وهي تريد توظيفها لتوسيع «مجالها الحيوي» في شمال شوريا وشماليها الشرقي، وربما خلق شريط حدودي مستدام، أو بعيد الأمد، تتولى ميليشيات محسوبة عليها أمر إدارته، ويوفر ملاذاً لإعادة توطين أكثر من ثلاثة ملايين سوري يقيمون فيها، ولا بأس أن تكون لهذا الشريط موارد طبيعية ومالية، تخفف أعباء هذه المهمة مالياً عن أنقرة.
مثل هذا التوجه، سيصطدم حتماً بمواقف دمشق، وحليفتها طهران، ومن ورائهما حزب الله... صحيح أن إيران ستكون سعيدة بانهيار حلم الأكراد الانفصالي وانتفاء أي فرصة لهم لخلق كيان خاص بهم... وصحيح أيضاً أن لطهران مصالح عميقة مع أنقرة، سيما لتخطي الحظر والعقوبات الأمريكية.... لكن الصحيح كذلك، أن إيران ليست مرتاحة للتمدد التركي في الشمال السوري، وهي تتفهم رغبة حليفها في دمشق، في استعادة سيطرته وسيادته على كافة الأراضي السورية.
روسيا، ومن موقعها كضابط إيقاع في الأزمة السورية، لن تساوم على مصالحها مع كل هذه الأطراف، ولن تفرط بها، كما أنها لن تفرط بأي من منجزاتها التي تكرست في سوريا، سيما بعد قرار الانسحاب الأمريكي منها ...لديها شبكة مصالح متشعبة ومعقدة مع تركيا، تبدأ بالطاقة والتجارة ولا تنتهي بصفقات التسلح، فضلاً عن «الجيوبوليتكس» وحساباته المعقدة .... لكن موسكو لا تستطيع أن تجاري أنقرة في كل ما تريد، وإلا ستكون قامرت بعلاقاتها مع دمشق وطهران ... الأرجح أن احتواء الاندفاعة التركية، و»عقلنة» المطالب والأطماع التركي في سوريا، هو ما ستعمل عليه موسكو، وهذا ما اتضح في البيانات التي صدرت في أعقاب اجتماعات وزراء خارجية ودفاع وقادة استخبارات الدولتين في موسكو مؤخراً، وهو ما سيخضع للاختبار في أول قمة للثلاثي الضامن لمسار أستانا في موسكو بعد أيام.
دمشق تراقب عن كثب مجريات الحوار التركي – الروسي، ولكن من موقع قوة هذه المرة، ربما أكثر من أي وقت مضى، ولديها في ذلك ما تلوح به من أوراق، زيادة على الانتصارات الميدانية التي تحققت على الأرض، وقرار واشنطن الانسحاب عن أكثر من ربع الجغرافيا السورية: فهي من جهة تعلم أن أكراد سوريا باتوا أمام خيارين، أما مواجهة أقدارهم الكارثية مع الأتراك، أو العودة لحضن الدولة السورية ... هم اختاروا وحسموا أمرهم، على الرغم من مظاهر التلكؤ والتردد، ومحاولات «تحسين شروط» عودتهم لدمشق ... ودمشق من جهة ثانية، تستقبل وفود العائدين، ليس من اللاجئين السوريين، بل من الدبلوماسيين العرب. وسيكتمل هذا المشهد، إن قررت القاهرة والرياض استئناف العلاقات الدبلوماسية مع دمشق، وعادت سوريا للجامعة العربية قبل القمة المقبلة في آذار المقبل.
القنبلة التي فجرتها «تغريدة» ترامب على توتير، ما زالت شظاياها تتفاعل، وتطاول أصدقاء واشنطن قبل أعدائها، وهي أدخلت المنطقة برمتها، في مرحلة جديدة، من إعادة النظر في الحسابات والأولويات والتحالفات.