هل يحق للرئيس ترمب أن يحتفل بلحظة انتصار فارقة باتت بصورة شبه مؤكدة مفتاحه إلى ولاية رئاسية ثانية في الانتخابات القادمة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، ليتربع على عرش البيت الأبيض لأربع سنوات أُخر؟
أغلب الظن أن ذلك كذلك، ولا سيما أن الرجل بدا منتصراً في محطتين مهمتين للغاية خلال الأيام القليلة الفائتة، فقد ألقى خطاب حالة الاتحاد الذي أكسبه قوة وحضوراً في أعين الأميركيين، وجاءت تبرئة مجلس الشيوخ له من الاتهامات التي وجهت إليه بغرض عزله لتفتح الطريق واسعاً أمام استعلان انتصاره على الديمقراطيين.
بدا واضحاً وفي الساعات التي أعقبت خطاب حالة الاتحاد أن الرئيس ترمب أصاب نجاحاً عظيماً؛ فقد جاء المضمون قوياً، والعبارات واضحة؛ إذ استخدم مصطلحات مقبولة ومعقولة من النخبة والعوام، عطفاً على تنوع الضيوف المدعوين إلى الكونغرس للاستماع إليه؛ ما جعله يظهر في مظهر المنتصر أمام الديمقراطيين الساعين إلى عزله.
من على منصة الكونغرس ظهر ترمب رجل دولة من الطراز الأول؛ إذ لم يجنح إلى التمايز بين الحزبين الكبيرين، ولم تستقطبه معارك الديمقراطيين، بل على العكس من ذلك تماماً وجّه خطاباً وسطياً قوياً بعيداً عن الحزبية.. خطاباً أشاد فيه بتعاون المشرعين من الحزبين للعمل معاً من أجل صالح أميركا؛ ما دعا الكثيرين من الأعضاء الديمقراطيين للوقوف تصفيقاً له.
خرج ترمب من خطاب حالة الاتحاد محملاً بالنقاط الإيجابية، التي اكتسب الكثير منها من الموقف العدائي الذي أبداه بعض من الرموز الكبرى للديمقراطيين كالسيدة نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب، والتي أبدت ما يمكن أن نطلق عليه كراهية مجانية لترمب منذ أن دخل البيت حتى تمزيق أوراق خطاب الرجل.
لا غرو إذن أن تأتي نتائج استطلاع معهد «غالوب» وقبل الجلسة النهائية في مجلس الشيوخ التي سعى فيها الديمقراطيون لإزاحة ترمب، لتؤكد على ارتفاع شعبية ترمب، فقد أشار 49 في المائة من المستطلعة آراؤهم إلى أنهم راضون عن أدائه، وهي أعلى نسبة يصل إليها منذ توليه منصبه في يناير (كانون الثاني) 2017، كما ارتفعت شعبيته بين الجمهوريين من 88 في المائة إلى 94 في المائة، وفي أوساط المستقلين من 37 في المائة إلى 42 في المائة، وأيد 53 في المائة قرار مقتل قاسم سليماني.
لم يكن مثيراً إذن أن يهتف الكثيرون لترمب تحت قبة الكونغرس مطالبين بإعادة انتخابه لأربع سنوات جديدة، وهو ما بات أمراً شبه محسوم بعد انتصاره الأخير في مجلس الشيوخ.
يحتاج حديث عزل ترمب إلى مساحة تتجاوز المسطح المتاح للكتابة؛ إذ تعكس بادئ ذي بدء الحالة التي وصل إليها النسيج الاجتماعي السياسي الأميركي من اهتراء، وهو أمر لا بد له من أن ينعكس بصورة أو بأخرى على حالة التماسك المجتمعي الأميركي، التي تصدعت بعض جوانبه من التشظي الذي أصاب الروح الأميركية.
هنا يتحتم القول، إن الدولة الليبرالية الأميركية العميقة قد عملت جاهدة من خلال الديمقراطيين على الإطاحة بترمب، ومنذ اليوم الأول لدخوله البيت الأبيض، ولا سيما أن جل مواقفه تميل كفتها نحو اليمين الأميركي، سواء يمين الوسط أو أقصى اليمين؛ ما تجلى في توجهاته السياسية الخارجية من ناحية، أو عبر القضايا الداخلية ذات المساحة الأخلاقية والإيمانية، كالإجهاض والمثلية الجنسية، والرافض لهما تماماً على العكس من سلفه باراك أوباما صاحب الشعار المخزي «الحب انتصر».
اجتاز ترمب الفخاخ الكثيرة التي نصبها له الديمقراطيون في طريقه في محاولة للنيل منه بأي ثمن، بدءاً من إشكالية «روسيا - غيت»، التي حاولوا فيها جاهدين اتهامه بالعمالة لروسيا بوتين، واستمرت المحاكمة فترة طويلة وعلى رأس فريق التحقيق المحقق روبرت موللر، المدير السابق للمباحث الاتحادية، ولم يقدر له أن يمسك تهمة صلدة تجاه الرئيس، ولاحقاً بدت النوايا الديمقراطية تترصد ترمب من خلال المكالمة الهاتفية سيئة الحظ - إن جاز التعبير - مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.
لم تكن البدايات في مجلس النواب تشي بأكثر من اهتراء سياسي أميركي داخلي، ولا سيما أن بيلوسي والديمقراطيين من ورائها كانوا يدركون أن قصة أوكرانيا برمتها ليست إلا تموضعاً سياسياً برداء قانوني، وبلغة أخرى يمكن القول، إن مسألة عزل الرئيس ترمب برمتها لم تكن إلا مسألة محاصصة سياسية وليست اتهاماً جنائياً موجهاً للرئيس.
اتهام مجلس النواب لترمب بتهديد الأمن القومي الأميركي لم يكن ذا حيثية من الأصل؛ ذلك أن المكالمة أصل المشكل لا يمكن تصنيفها كرشوة، ولا يعتد بها كخيانة عظمى، وهما السببان الواردان في المادة الثانية من القسم الرابع في الدستور الأميركي لعزل الرئيس.
ما تبقى أمام أعضاء مجلس الشيوخ في محاكمتهم لترمب لم يكن سوى «الجرائم والجنح العالية»، والتي لم يتطرق الدستور الأميركي لماهيتها؛ ما يجعل التفسيرات لزجة ومطاطة، ولا سيما في ظل تأكيد المحكمة الدستورية العليا في البلاد على حصانة الرئيس دستورياً من أي محاكمة مدنية.
سعى الديمقراطيون إلى تحويل ترمب إلى بطة ميتة وليس بطة عرجاء فقط قبل الانتخابات الرئاسية القادمة، غير أن ما حدث هو العكس تماماً؛ إذ كانت مشاعر الحنق الديمقراطية طريقاً لتأكيد القاعدة الشعبية لترمب التفافها حول الرئيس، وقد رأى غالبية الأميركيين أن ما يجري ليس إلا محاولة انقلاب سياسي من التيارات المغرقة في تطرف أجنحتها الليبرالية، حتى وإن كلف الأمر خسارة الديمقراطيين الرئاسة القادمة.
الخلاصة... الغضب ليس جميلاً كما يقول كانط... والكراهية لا تفيد في بناء مستقبل الدول... الوطن مودات وشراكة أحلام.