الإحباط من الديمقراطية

الإحباط من الديمقراطية

الإحباط من الديمقراطية

 العرب اليوم -

الإحباط من الديمقراطية

عثمان ميرغني
بقلم - عثمان ميرغني

هل الديمقراطية في مأزق؟

المشاهد التي رآها الناس في الكونغرس الأميركي الأسبوع الماضي، جعلت عدداً من المحللين داخل الولايات المتحدة وخارجها يتحسرون على ما آل إليه حال الديمقراطية ومؤسساتها في هذا البلد، ويحذّرون من تبعات فقدان الثقة بشكل متزايد بالسياسيين وبأداء الديمقراطية. فبينما تعرض الرئيس دونالد ترمب للانتقادات لأنه تجاهل مصافحة رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، قبل إلقائه خطاب حال الاتحاد، تعرضت بيلوسي لعاصفة أشد من النقد لقيامها بتمزيق نسختها من الخطاب بطريقة درامية غاضبة على مرأى من العالم الذي تابع المناسبة أو شاهد هذه اللقطات التي سيطرت على الأخبار بعدها.

وقبل أن تهدأ الأمور شاهد الناس المظاهر الاحتفالية والهتافات السياسية في مجلس الشيوخ عقب تبرئة ترمب من التهم الموجهة إليه في محاكمته التي وقف خلفها الديمقراطيون بأمل ضعيف أن تؤدي لعزله أو على الأقل أن تُضعفه في عام الانتخابات الرئاسية، بينما عارضها وأحبطها الجمهوريون لحسابات حزبية وسياسية. كتب بعض المحللين في الصحف الأميركية أن انقسام الكونغرس على أساس حزبي في قضية كبرى مثل محاولة عزل الرئيس يعد نكسة للديمقراطية وللدستور، بينما نشرت صحيفة «واشنطن بوست» مقالاً بعنوان «مجلس الشيوخ أصبح تهديداً للديمقراطية ذاتها» للكاتب ديفيد ليت.

ترمب كعادته صب المزيد من الزيت على النار المشتعلة عندما عقد لقاء في البيت الأبيض دعا إليه رجال الإعلام لا لكي يرد على أسئلتهم بعد تبرئته في مجلس الشيوخ، بل استخدم المناسبة لكي يحتفل ويهاجم ويسب خصومه في الكونغرس وخارجه من الديمقراطيين الذين أرادوا عزله.

كل هذه المشاهد وما رافقها أو تبعها من جدل، ذكرتني بمقال نشرته مجلة «ذي أتلانتيك» الأميركية واختارت له عنواناً صارخاً هو «أميركا ليست ديمقراطية» تناولت فيه ظاهرة مقلقة، وهي تزايد نسبة الأميركيين الذين باتوا يعبرون عن عدم رضاهم عن أداء الديمقراطية ومؤسساتها. وعالج المقال، بالاستناد إلى عدد من الدراسات واستطلاعات الرأي، قضايا مثل دور المال وجماعات المصالح والضغط في تشكيل السياسات، وكيف أنه نتيجة لذلك يضيع صوت الناس العاديين وتأثيرهم على السياسات التي تُتخذ في دوائر صنع القرار وتنعكس بشكل مباشر على حياتهم.

الواقع أن الأمر لا يتعلق بأميركا وحدها بل أصبح ظاهرة ملحوظة في عدد مقدّر من الدول، يعكف على دراستها الخبراء والباحثون، ويحذرون من تبعاتها الآنية والمستقبلية. باحثو جامعة كمبريدج البريطانية العريقة على سبيل المثال سجّلوا في دراسة نُشرت أواخر الشهر الماضي أن هناك استياءً متزايداً من الديمقراطيات وطريقة أدائها في عدد من الدول المتقدمة والنامية. فبعدما كانت نسبة الاستياء والمستائين من أداء الديمقراطية في الدول المتقدمة نحو 39% في عام 1995 ارتفعت إلى أزيد من 57% بحلول 2020.

أهمية الدراسة التي قام بها باحثو «مركز مستقبل الديمقراطية» في جامعة كمبريدج أنها استندت إلى تحليل بيانات مأخوذة من 25 دراسة عالمية تغطي 154 بلداً وتمتد لفترة 25 عاماً، ما يجعلها شاملة ودقيقة إلى حد كبير في رصد ظاهرة الاستياء المتزايد في الديمقراطيات. ويقول المشرف على الدراسة الدكتور روبرتو فوا، إنه إذا كانت ثقة الناس بالديمقراطية تتراجع فإن ذلك يعود إلى أنهم يرون أن المؤسسات الديمقراطية فشلت في معالجة الكثير من المشكلات والأزمات الكبرى التي تواجههم مثل الأزمة المالية التي عصفت بالعالم في 2008، أو الضغوط والأزمات الاقتصادية المتلاحقة، ومشكلات البطالة، والمناخ وغيرها من القضايا الملحة. ويرى فوا أنه لإعادة الثقة بالديمقراطية لا بد من تغيير في أداء السياسيين والمؤسسات الديمقراطية.

نتائج دراسة كمبريدج تكاد تتطابق مع نتائج استطلاع أجراه مركز «بيو» الأميركي لقياس الرأي نُشر العام الماضي وشمل عينات من 27 بلداً. ففي الولايات المتحدة مثلاً أعربت نسبة 58% ممن شاركوا في الاستطلاع عن استيائها من أداء الديمقراطية ومؤسساتها، بينما كانت النسبة في بريطانيا 55%، وفي فرنسا 51%، وفي اليابان 56%، وفي الأرجنتين 63%، وفي جنوب أفريقيا 64%. المفاجأة أن النسبة تجاوزت 80% في بعض الدول مثل اليونان (84%)، وإسبانيا (81%)، والمكسيك (85%)، والبرازيل (83%). أقل النسب سُجلت في دول مثل السويد (30%)، وهولندا (34%)، وإندونيسيا والهند (33%).

هذا الاستياء المتزايد دفع الناس في عدد من الدول إلى التصويت للأحزاب الشعبوية أو للمرشحين الذين يتبنون شعارات راديكالية أو قومية أو حتى عنصرية في بعض الأحيان. ترمب ركب هذه الموجة واستفاد منها في انتخابات الرئاسة عام 2016 واعداً الناخبين بأنه سيكون صوتهم وسيجفف «المستنقع» في واشنطن، وسيوظفها بلا شك في انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل التي يُتوقع أن تكون حملاتها أشرس في ظل العداء المستحكم بين قيادات الجمهوريين والديمقراطيين، ومزاج الرئيس الحاد وعدم تورعه عن استخدام شعارات شعبوية حتى وإن كانت تؤجج الانقسامات وتوتِّر الأجواء.

بغضّ النظر عما سيحدث في الانتخابات الأميركية المقبلة، فإن أزمة الديمقراطية ومؤسساتها تبقى قضية تشغل المهتمين وتثير المخاوف من استمرار صعود تيارات شعبوية متطرفة. فمشاعر الاستياء وسط الناس من أداء السياسيين والمؤسسات الديمقراطية يتزايد، كما أن الأجيال الشابة تشعر بالتهميش وترى أحلامها تتبخر في ظل المشكلات الاقتصادية بينما تتسع الفجوة بينها وبين الأجيال القديمة من السياسيين. هذه الضغوط المتزايدة ربما تكون المفتاح لبدء عملية تقويم أداء المؤسسات الديمقراطية والحد من دور العوامل السالبة التي تؤثر فيها. فالمشكلة ليست في الديمقراطية كنظام للحكم، بل في السياسيين، وفي جماعات المصالح، وفي الدور المتزايد للمال في السياسة.

إصلاح الديمقراطية، كما يقولون، يكون بمزيد من الديمقراطية، وهنا يأتي دور لاعب جديد هو الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي التي أحدثت ثورة في مجال الاتصالات والمعلومات، وفتحت آفاقاً جديدة في حرية التعبير، وأشعرت الناس بأنهم يستطيعون التأثير في مجرى الأحداث وتغيير السياسات... والضغط على السياسيين. لكن التعبير على وسائل التواصل الاجتماعي لن يُحدث وحده التغيير المطلوب، إذ إن الأهم هو تغيير ثقافة الممارسة الديمقراطية من حالة الاستقطاب الحاد والتمترس وراء الآيديولوجيات والمصالح الحزبية الضيقة، إلى وضع لا يغيب فيه صوت الناخبين وهمومهم الحقيقية.

 

arabstoday

GMT 00:37 2024 الخميس ,16 أيار / مايو

التطبيع بعد القمة!

GMT 23:32 2024 الأحد ,12 أيار / مايو

تداعيات انتهاء حرب غزة على لبنان

GMT 23:50 2024 السبت ,11 أيار / مايو

حرية الرأي والتعبير!

GMT 22:58 2024 الخميس ,02 أيار / مايو

«لا تشكُ من جرح أنت صاحبه»!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الإحباط من الديمقراطية الإحباط من الديمقراطية



الفساتين الطويلة اختيار مي عمر منذ بداية فصل الربيع وصولًا إلى الصيف

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 00:01 2024 الأحد ,19 أيار / مايو

هل نفد الصبر المصرى من إسرائيل؟

GMT 22:12 2024 السبت ,18 أيار / مايو

مقتل شخص وإصابة 6 في اشتباكات في غرب ليبيا

GMT 03:07 2024 السبت ,18 أيار / مايو

مورد محدود
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab