من روائع أبي الطيب 27

من روائع أبي الطيب (27)

من روائع أبي الطيب (27)

 العرب اليوم -

من روائع أبي الطيب 27

بقلم - تركي الدخيل

(73) وَمَا كُلٌّ بِمَعْذُورٍ بِبُخْلٍ * وَلَا كُلٌّ عَلَى بُخْلٍ يُلَامُ

الناس مختلفون من حيث العُذْرُ بالبُخلِ، على حَسَبِ أحوالِهم، ومراتبهم ومنازلهم، وما يُرجَى منهم وما لا يُرجَى. فالغني الموسر لا يُعذر على بخله، وعلى إمساكه عن الإنفاق، لأنّ الله جعل في ماله حقّاً معلوماً للسائلِ والمحرومِ. وكريمُ الطباعِ، حَسَنُ السَّجايَا، لا يُعذَر على شُحِّه، فالبُخلُ طَبْعُ الأَرَاذِلِ، ولا يَليق الطبعُ الحقيرُ بالشخصِ الشريفِ. ويُعذَر بالبُخلِ قليلُ ذاتِ اليدِ، ذو العُسرة، وصاحبُ الحاجةِ. وترتقي هِمَمُ الكِبَارِ فيلومُونَ على البُخلِ من نَشَأَ في بيتِ كَرَمٍ، وبالعكسِ يُعَذَرُ مَنْ لَمْ يَشُبَّ في رحابٍ كريمةٍ، فإِنّهُ ما عَرَفَ الكرَمَ عَمَلِيّاً، وَلَعَلَّهُ يَدخُلُ في دَائِرَةِ المَعذُورِ بِالجَهْلِ.

ولأبي تمَّام، في لُومِ الشَرِيفِ على التأخُرِ عَن الشَّرَفِ، قولُه:

لِكُلٍّ مِنْ بَنِي حَوَّاءَ عُذْرٌ * ولَا عُذْرٌ لِطَائِيٍّ لَئِيْمِ

ولأبي نواس بيتٌ يفيضُ حُزنَّاً، يقول فيه:

كَفى حَزَناً أَنَّ الجَوَادَ مُقَتَّرٌ * عَلَيْهِ وَلَا مَعْرُوفَ عِنْدَ بَخِيلِ

وغايةُ الجُودِ أن يُعْطي المرءُ مع قِلَّةِ ذاتِ اليَدِ، كما قال المُقَنَّعُ الكِنْديُّ:

لَيْسَ العَطَاءُ مِنَ الفُضُولِ سَمَاحَةً * حَتَّى تَجُودَ وَمَا لَديْكَ قَلِيْلُ

وهذا النوعُ من العَطاءِ يعكِسُ الإيمانَ العميقَ بالفكرةِ، إلى درجةِ أنَّ تكالُبَ الظُّروفِ على الكريمِ لا يمنَعُه من الجُود على قِلَّة ما لدَيْه.

(74) إِذَا غَامَرْتَ فِي شَرَفٍ مَرُومِ * فَلَا تَقْنَعْ بِمَا دُونَ النُّجُومِ

هذا بيتٌ شريفٌ اختارَه المتنبي ليكون مطلعًا لقصيدته، وقد أحْسَن قولًا بهذا البيتِ الذائعِ الصيتِ، والمَثَلِ السَّائرِ.

غَامَرْتَ: المُغامرةُ هي المجازَفَةُ، والوُلوجُ في الصِّعَابِ والمَهَالِك. وتتضح المجازفةُ في المُغامرة من معناها المعجميِّ، جاء في (لسان العرب): «رَجُلٌ مُغَامِرٌ إِذَا كَانَ يَقْتَحِمُ المَهَالِكَ».

قال أبو عبدالله غفر الله له: غامرتُ: أي دخلتُ في الغَمَرَاتِ، وهي جمعُ غَمْرَةٍ: أصلُها الشيءُ الذي يَغْمُرُ الأشياءَ فيُغَطِّيها، ثم وُضِعت في موضِعِ الشَّدائدِ والمكارِه لأن الشدائدَ إذا أصابت المرءَ غمرتْه وأغرَقته فيها، فلا همَّ له غير همِّها.

شَرَف: الشَّرَفُ: العُلُوُّ والارتفاعُ، والشَّريف مِنَ النَّاسِ مَن كان عَالِي الْمَنْزِلَةِ. وشَرِيفٌ وَالْجَمْعُ شُرَفَاء وأَشْرَافٌ، وَقَدْ شَرُفَ، بِالضَّمِّ، فَهُوَ شَرِيف، وشَارِفٌ عَنْ قَلِيلٍ أَي سَيَصِيرُ شَرِيفاً... وَقَدْ شَرَفه وشَرَفَ عَلَيْهِ وشَرَّفَه: جَعَلَ لَهُ شَرَفًا، وَكُلُّ مَا فَضَلَ عَلَى شَيْءٍ، فَقَدْ شَرَفَ.

وشارَفَه فَشَرَفَه يَشْرُفه: فاقَه فِي الشرفِ، عَنِ ابْنِ جِنِّي. وَشَرفْتُه أَشْرُفه شَرْفاً أَي غَلَبْته بالشرَفِ، فَهُوَ مَشْرُوف، وَفُلَانٌ أَشْرَفُ مِنْهُ. وشارَفْتُ الرَّجُلَ: فَاخَرْتُهُ أَيُّنا أَشْرَفُ. (لسان العرب).

مَرُوم: مطلوبٌ مرغوبٌ فيه لِعُلُوِّه. «رَوَمَ: رَامَ الشيءَ يَرومُهُ رَوْمًا ومَراماً: طَلَبَهُ. قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: والمَرامُ المَطْلَبُ. ابْنُ الأَعرابي: رَوَّمْتُ فُلَانًا ورَوَّمْتُ بِفُلَانٍ إِذا جَعَلْتَهُ يَطْلُبُ الشَّيْءَ».

و«الشَّرَفُ، مُحَرِّكُهُ: العُلُو، والمكان العالي»، كما في (الكليات). فلا تُحَرِّكُ الدنيئات شرفاً، ولا تعاقِرُ الدنايا شريفاً، وحاشاه.

شبَّه المتنبي الغاياتِ المطلوبةَ العاليةَ بالنجوم في السماءِ، بجامِعِ العُلُوِّ والرِّفْعة، والسمُوِّ بينها.

في هذا البيت أيضاً، يُشجع المتنبي على السعي وراءَ الأهداف العالية، وعلى عدم القبول بأيِّ هدفٍ أدنى من الأعلى.

والنجمُ في هذا السياق رمزٌ للعَظَمة والسموِّ، كما أن الغَمْرَ في «شرفٍ مروم» يُمثل التضحيةَ والمخاطرةَ من أجل تحقيق العَظَمة. وبحجم الغاياتِ تكون الصعوباتُ، ويزيدُ تعبُ الأجسام، فالنفوسُ الكبيرةُ، أهدافُها عظيمةٌ، ولتتحقَّقَ هذه الأهدافُ تَبْذُلُ الأجسامُ جهداً مضاعفاً، فتتعَبُ في بلوغِ مُراد كبارِ النفوسِ، كما قال المتنبي:

وإِذَا كَانَتِ النُّفُوسُ كِبَاراً * تَعِبَتْ فِي مُرَادِهَا الأَجْسَامُ

إن المعالي تتطلب جهداً جسدياً ونفسياً، وبدون الاستعدادِ لتحمُّل هذا الجهدِ وقبولِ هذه المشاقِّ لا يمكن للشخصِ أن يصلَ إلى القِمةِ.

إن أبياتَ أبي الطيب المتنبي ليست مجرَّدَ تصويرٍ لحالةٍ فرديةٍ من المعاناةِ أو الألمِ في سبيل تحقيق الهدفِ، بل هي تلخيصٌ لرؤيةٍ فلسفيةٍ عميقةٍ تجاه الحياةِ والنجاحِ. فالعظمةُ لا تُمنح، بل تُكتسب، ولا تُنالُ بسهولة، بل بمشاقَّ وصعابٍ، ولكنها تستحِقُّ ما يُبْذَل من تعب للحصول عليها، ويَحِقُّ فيها ما يُقال في المثل الشعبي: «الغالي ثمنه فيه»، دلالةً على استحقاقِه غلاءَ ثمنِه.

(75) فَطَعْمُ المَوتِ فِي أَمْرٍ حَقِيرٍ * كَطَعْمِ المَوتِ فِي أَمْرٍ عَظِيمِ

المَوْتُ هو المَوْتُ، لا يَتَغَيَّر طَعمُهُ بِحَسَبِ نَوْعِ المِيتَةِ! ولذلِكَ أَكَّدَ المتنبي أن الموتَ في أمر حقيرٍ، يتساوَى مع الموتِ في أمرٍ عظيمٍ، في تطابق طعم الرَحِيلِ في الحاليْن.

ولأبي الطيب بيتٌ آخرُ يقول فيه: وإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنَ المَوتِ بُدٌّ * فَمِنَ العَجْزِ أَنْ تَكُونَ جَبَانَا فكيف إذا لم يكن من الموتِ بُدٌّ، وكان طعمُ الموت في الأمر الحقير والعظيم واحداً!

كل ذلك إنّما هو لتحفيزِك كي لا تقنعَ بما دون النجوم، وقد غامرتَ في شَرَفٍ مَرُومِ... لأنَّك شريفٌ، لا يليقُ بِكَ دُونٌ، ولو كان دونَ النجومِ!

arabstoday

GMT 08:57 2025 السبت ,15 شباط / فبراير

شكسبير وعيد الحب

GMT 08:53 2025 السبت ,15 شباط / فبراير

“شركة لتطوير المحافظات”.. والمدينة الجديدة!

GMT 06:33 2025 السبت ,15 شباط / فبراير

شو الأخبار

GMT 06:32 2025 السبت ,15 شباط / فبراير

فَكُنْ أَنْتَ الَّذِي يَتَأَخَّرُ

GMT 06:30 2025 السبت ,15 شباط / فبراير

ترمب... حاطبُ ليل أم الريح تحطّب له؟

GMT 06:29 2025 السبت ,15 شباط / فبراير

ذئب ميونيخ... وتعدد الأسباب

GMT 06:28 2025 السبت ,15 شباط / فبراير

يا مال الشام!

GMT 06:25 2025 السبت ,15 شباط / فبراير

أزمة المنظمات الدوليّة والإقليمية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

من روائع أبي الطيب 27 من روائع أبي الطيب 27



GMT 10:29 2025 السبت ,15 شباط / فبراير

حسين فهمي يشارك في مهرجان برلين وسط الثلوج
 العرب اليوم - حسين فهمي يشارك في مهرجان برلين وسط الثلوج

GMT 11:22 2025 الخميس ,13 شباط / فبراير

خطاب إلى وزير الداخلية!

GMT 14:52 2025 الخميس ,13 شباط / فبراير

برشلونة يعلن رسميًا تمديد عقد كوبارسي حتى 2029

GMT 11:03 2025 الخميس ,13 شباط / فبراير

أسيل عمران بإطلالات راقية تلفت الأنظار

GMT 02:39 2025 الجمعة ,14 شباط / فبراير

سماع دوي أصوات انفجارات في العاصمة كييف

GMT 14:10 2025 الخميس ,13 شباط / فبراير

تارا عماد مع أبطال The Seven Dogs
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab