بقلم : رضوان السيد
هي الذكرى العشرون لاستشهاد الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005. ونحن هنا بين أمرين: دروس تجربة الحريري الغنيّة، ودروس استشهاده.
أطلَّ رفيق الحريري على الواقع اللبناني أواخر السبعينيات من القرن الماضي، حين كانت الحرب الأهلية ما تزال مشتعلة، وكانت منظّمة التحرير ما تزال مشتبكة مع إسرائيل، وكان العسكر السوري قد دخل لبنان. كلّ ذلك لم يصرفه عن الاهتمام بأمرين: الصحّة والتعليم، وفي البداية بصيدا، ثمّ في بيروت وسائر أنحاء لبنان.
مع أنّه انصرف بعد عام 1982 للتدخّل في الشأن السياسي اللبناني رجاء وقف الحرب الأهلية، لكنّه ما أوقف مساعيه في التعليم فأنشأ مؤسّسة الحريري، التي خرّجت خلال عشرين عاماً أربعين ألف طالب وطالبة، واشترى مدارس الليسيه من الفرنسيين لكي يستمرّ التعليم الأساسي الراقي الذي عُرفت به بيروت. وما اكتفى بإعطاء منح للطلاب بالجامعات، بل ساعد الجامعات أيضاً في دفع مرتّبات الأساتذة، حتى لا يهجروا البلاد وسط الأزمات المتلاحقة.
هي الذكرى العشرون لاستشهاد الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005. ونحن هنا بين أمرين: دروس تجربة الحريري الغنيّة، ودروس استشهاده
عندما كان الحريري يُنشئ مؤسّسات التعليم والصحّة والخدمات الاجتماعية، كان يطوف بين المملكة وفرنسا وسورية ولبنان بمعدّل جولة كلّ عشرة أيام، من أجل إقناع كلّ الأطراف بوقف الحرب، بعلم المملكة العربية السعودية طبعاً. وقد تمّت عدّة محاولات حضرتْها الأطراف في لوزان وجنيف في أواسط الثمانينيات، لكنّها لم تنجح لأنّ كلَّ طرفٍ كان يريد أن يبدو المنتصر وفق اعتباره. إنّما بعد قمّة الرباط واللجنة السداسية، دخلت المملكة ودخل الأمير سعود الفيصل على الخطّ وجلب النواب اللبنانيين إلى مدينة الطائف حيث قضوا أكثر من شهر (1989) واتّفقوا على حلّ الميليشيات وعلى كتابة دستورٍ جديد، واستعادة مؤسّسات الدولة، ووحدة الجيش. لكن بقي المسمار الأطول: لا يذهب الجيش إلى الجنوب لإتاحة الفرصة للمقاومة!
رجل التّنمية
أنا أرى أنّ أعمال الحريري بين 1979 و1992 تمثّل رؤيته باعتباره رجل تنمية كبيراً. والتنمية عماد السياسة والاستقرار. لكنّ كلّ المراقبين والزملاء يعتبرون أنّ الحريري السياسيّ هو الأهمّ (1992-2005). وقد قام خلالها ومن موقعه رئيساً لحكومات متعاقبة بأربعة أمورٍ كبرى: إعادة إعمار ما هدمته الحروب وإسرائيل، وإعادة إعمار النظام السياسي، وإعادة نشر لبنان لدى العرب وفي العالم، والأمر الرابع: محاولة تنظيم العلاقات مع سورية، ومع الطرف الداخلي المرتبط بسورية وبإيران. وقد حقّق نجاحاتٍ كبرى في الإعمار والتنمية ونشر لبنان على مسرح العالم. لكنّ نجاحه ما كان كاملاً مع النظام السياسي لأنّه بقي فيه التقليديّون وامتزجوا بميليشيات الحرب التي ظلّت سائدةً بمساعدةٍ سوريّةٍ بعد الحرب. أمّا الملفّ الرابع الذي لم ينجح فيه تماماً فكان تنظيم العلاقة مع سورية الأسد. السوريون يعرفون أنّهم لا يستطيعون إلغاء لبنان بالاستيلاء عليه، ولذلك كانوا يستغلّونه إلى أقصى الحدود وفي كلّ المرافق والمجالات، وفي الوقت نفسه يقدّمون من خلاله خدمات لعدّة أطراف: إيران وأميركا وإسرائيل. أدرك رفيق الحريري ذلك كلّه، لكنّه لم يستطِع التسليم به (الوجود السوري شرعي ومؤقّت!). وبقدر ما تعرّض الحريري للابتزاز من السوريين، تعرّض لابتزازاتٍ لا تنتهي من أنصار سورية في الطبقة السياسية.
أعمال الحريري بين 1979 و1992 تمثّل رؤيته باعتباره رجل تنمية كبيراً
عندما مات حافظ الأسد عام 2000 كانت المنطقة تتّجه في اتّجاهين خطِرين: فالقاعدة هجمت عام 2001 على أميركا فاعتزمت أميركا على غزو أفغانستان والعراق وشنّت الحرب العالمية على الإرهاب، وإيران تحفّزت لزيادة نفوذها في سورية والإفادة من إسقاط صدّام، والمضيّ أكثر في مشروعها النووي. ونحن نقول ذلك الآن، وأمّا يومها فكان المنتظر أن تُحكم الولايات المتحدة من خلال غزو العراق سيطرتها على المنطقة. أمّا الذي حدث أنّ الزعماء العرب توفّوا تباعاً، ومنهم الملك فهد والملك حسين وياسر عرفات وصدّام حسين أُعدم.. وقُتل رفيق الحريري. ظننّا الهجمة أميركية، فتبيّن أنّها إيرانية حتى في العراق. فقد دخلت ميليشيات المعارضة العراقية مع القوات الأميركية من إقليم كردستان قادمةً من إيران! وفي ذكرى عاشوراء جرت احتفالات في دمشق وحلب وحمص.
عمليّة مشتركة
هل كانت تلك النُذُر تقلق الحريري والسعوديّين بل والعرب؟ في عام 2008 أو 2009 قال الرئيس حسني مبارك في مجلسٍ كنت حاضراً فيه: ما اطمأنَنّا نحن والسعوديون إلى بشار الأسد لأكثر من ستّة أشهر. لقد أوصاني به والدُه، لكنّه ما استفاد من نصائحنا ولا من الدعم السعودي: فهل خاف من القُرب الأميركي بالعراق؟
على العكس من النُذُر كان الرئيس الحريري يتّجه لمواجهة السياسة السورية في لبنان بعد إرغامه على التمديد للرئيس اميل لحّود. ولذلك انضمَّ إلى اجتماع البريستول. لقد صارت ذكريات قديمة بعد عشرين سنة. فهل فسّروا القرار 1559 (الذي تقدّمت به الولايات المتحدة وفرنسا)، الذي يقول عمليّاً بإخراج القوّات السوريّة من لبنان، بأنّه هجوم على النظام السوري، وبخاصّةٍ أنّ الحضور الأميركي بالعراق كان طاغياً، فشعر النظام السوري بالحصار؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا كُلّف بالاغتيال “الحزب” لا المخابرات السورية؟ يبدو أنّ العملية كانت مشتركة، فالشاحنة الضخمة ومتفجّراتها للسوريّين علاقة بها بالتأكيد.
إقرأ أيضاً: مشروع رفيق الحريري… هزم القتلة!
كيف قرأت الأطراف مقتل الرئيس الحريري؟ بمعنى مَنْ فهم المقتل على أنّه هجوم إيراني – سوري؟ وكيف أمكن حصول ذلك مع وجود الأميركيين؟ ذكرت ذلك لباحثٍ أميركي قبل سنواتٍ فأجابني: كما أمكن للأميركيين أن يقتلوا سليماني بحضور الإيرانيين الكثيف حتى في مطار بغداد حيث قُتل!