وَبَيتُ القَصِيدِ، اليَومَ، فيه كَثِيرٌ مِنْ مَعَانِي المَحَبَّةِ الخَالِصَةِ، وَالأُخُوَّةِ الثَّابِتَةِ، وَالصَّدَاقَةِ المَتِينَةِ، عِنْدَمَا تَمَنَّى الشَّاعِرُ أَنْ تَتَقَدَّمَ وَفَاتُهُ وَفَاةَ صَاحِبِهِ، فَقَالَ:
إِذَا مَا أَتَى يَوْمٌ يُفَرِّقُ بَيْنَنَا
بِمَوْتٍ فَكُنْ أَنْتَ الَّذِي يَتَأَخَّرُ
وَضِدُّهُ رُبَّمَا بَيْتُ الشّعْرِ المُتَنَازَعُ أيضاً علَى قَائِلِهِ:
كِلَانَا غَنِيٌّ عَنْ أَخِيهِ حَيَاتَهُ
وَنَحنُ إذَا مِتنَا أشَدُّ تَغَانِيَا
وَ(حَيَاتَهُ) مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الخَافِضِ.
وَمِثلُ كَثِيرٍ مِنْ أَبْيَاتِ الشّعْرِ العَرَبِيّ، اختُلِفَ فِي نِسْبَةِ البيتِ، فنُسِبَ لِغَيرِ شَاعِرٍ، فَقِيلَ إنَّ قَائِلَهُ: حَاتِمٌ الطَّائِيّ، وَقِيلَ: الأَقْرَعُ بنُ حَابِسٍ، وَيُروَى البَيْتُ أيْضاً، مَنْسُوباً للأَغَرِّ بنِ حَابِسٍ العَبْدِيِّ.
قَالَ إبْرَاهِيمُ الصُّولِي: إنَّ قَوْلَهُمْ: «قَدَّمَنِي اللهُ قَبْلَكَ» مَأخُوذٌ مِنَ البَيْت.
وَذَكَرَ ابْنُ رَشِيقٍ فِي «العُمْدَة» أَنَّ الكُتَّابَ أَخَذُوا قَولَهُمْ: «قُدِّمْتُ قَبْلَكَ» مِنْ بَيْتِ القَصِيد، وَنَسَبَهُ لِلأقْرَعِ بنِ حَابِسٍ، أوْ لِحَاتِمٍ.
قَالَ أَبُو هِلَالٍ العَسْكَرِيّ: وَأَوَّلُ مَنْ أَشَارَ إلَى هَذهِ اللّفْظَةِ، فَأَخَذَهَا النَّاسُ مِنْهُ، حَاتِم الطَّائِيّ، وَأشَارَ إلَى أنَّ قَولَهُمْ: «قَدَّمَنِي اللهُ قَبْلَكَ» مَأْخُوذٌ مِنْ بَيْتِ حَاتِمٍ.
وَأَبُو الطَّيّبِ يَقُولُ فِي لَحْظَةِ صِدْقٍ:
أَرَى كُلَّنَا يَبْغِي الحَيَاةَ بِسَعْيِهِ
حَرِيْصاً عَلَيْهَا مُسْتَهَامـاً بِهَا صَبَّا
ثُمَّ بيَّنَ أنَّ حُبَّ النَّفْسِ جَعَلَ الجَبَانَ يَتَّقِي القِتَالَ، والحُبَّ ذَاتَهُ أَوْرَدَ الشُّجَاعَ الحَربَ.
لَكِنَّ شَاعِرَنَا فِي بَيْتِ القَصِيدِ جَعلَهُ حُبُّهُ لِصَديقِهِ يَطْلُبُ مِنْهُ إذَا حلَّ فِرَاقُ المَوْتِ أنْ يَكُونَ هُوَ المتأخرَ، وَالمَعْنَى: أنْ يَكُونَ مَوْتُ الشَّاعِرِ قَبْلَ مَوْتِ الصَّدِيق!
فِي العَامِيَّةِ، يُقَالُ: «جعلْ يَومِي قَبلْ يَومكْ»، أيْ: جَعَلَ اللهُ يَوْمَ مَنِيَّتِي قَبْلَكَ، وَهُوَ مَعْنَى بَيتِ القَصِيدِ ذَاتُهُ.
هَلْ يُريدُ الشَّاعِرُ، وَالقَائِلُ، أنْ تَتَأخَّرَ وَفَاةُ الصَّدِيقِ، لِيَسْتَمْتِعَ بِالحَيَاةِ مُدَّةً أَطْوَلَ؟! أمْ يُرِيدُ أنْ يَرحَلَ قَبلَ صَاحِبِهِ، تَجَنُّباً لِآلَامِ فِرَاقِ الصَّدِيقِ؟!
يَظهَرُ أنَّ الخِيَارَ الثَّانِي أكْثَرُ حُضُوراً فِي الذّهْنِ... فَمِنَ المَقُولَاتِ فِي اللَّهْجَةِ العَامِيَّةِ قَوْلُهُمْ: «جعلني مَا أذوقْ حُزنكْ»، أيْ، لَا جَعَلَنِي اللهُ أذُوقُ حُزْنَ فِرَاقِكَ. وَالقَصْدُ: أنْ تَتَقَدَّمَ وَفَاةُ القَائِلِ وَفَاةَ السَّامِع!
وَكَمَا يفقِدُ المَرْءُ الصَّدِيقَ الوَاحِدَ، يُفْقَدُ الجَمْعُ مِنَ النَّاسِ إذَا رَحَلُوا، ويُحْزَنُ عَلَيْهِمْ.
رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: قَالَ لَبِيدُ:
ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ
وَبَقِيتُ فِي خَلْفٍ كَجِلْدِ الْأَجْرَبِ
يَتَحَدَّثُونَ مَخَـانَةً وَمَلَاذَةً
وَيُعَابُ قَائِلُهُمْ وَإِنْ لَمْ يَشْغَبِ
قَالَتْ: «فَكَيْفَ لَوْ أَدْرَكَ لَبِيدٌ قَوْمًا نَحْنُ بَيْنَ ظَهْرَانَيهِمْ؟»...
قَالَ عُرْوَةُ: «كَيْفَ بِعَائِشَةَ لَوْ أَدْرَكَتْ مَنْ نَحْنُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِم؟»...
قَالَ الزُّهْرِيُّ: «وَكَيْفَ لَوْ أَدْرَكَتْ عَائِشَةُ مَنْ نَحْنُ بَيْنَ ظَهْرَانَيهِمُ الْيَوْمَ؟».
قَوْلُهُ: «في خَلْفٍ»، يُقالُ: هو «خَلْفُ فلانٍ» لمن يَخْلُفُهُ مِنْ رَهْطِهِ، وَهَؤلَاءِ «خَلْفُ فلانٍ»؛ إذَا قَامُوا مَقَامَهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ، وَقَلَّمَا يُسْتَعْمَلُ «خَلْفٌ» إلَّا فِي الشَّرِّ.
وَ«المَخَانَةُ»: مَصْدَرٌ مِنَ الخِيَانَة.
وَ«المِلْوَذُ»: الرَّجُلُ الَّذِي لا يَصْدُقُ في مَوَدَّتِهِ. (الكَامِل)، لِلْمُبَرّد. وَعِنْدَهُ:
أنَّ رَجُلًا قَالَ لِمَعْنِ بنِ زَائِدَةَ، فِي مَرَضِهِ:
لَوْلَا مَا مَنَّ اللهُ بِهِ مِنْ بَقَائِكَ، لَكُنَّا كَمَا قَالَ لَبِيدٌ:
ذَهَبَ الّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ
وَبَقِيتُ فِي خَلفٍ كَجِلْدِ الأَجْرَبِ
فَقَالَ لَهُ مَعْنٌ:
إنَّمَا تَذْكُر أَنِّي سُدْتُ حِينَ ذَهَبَ النَّاسُ! فَهَلَّا قُلتَ كَمَا قالَ نَهارُ بنُ تَوْسِعَةَ:
قَـلَّـدَتْـهُ عُـرَى الأُمُـورِ نِـزَارٌ
قَـبْـلَ أَنْ تَـهْـلِـكَ الـسَّـرَاةُ البُـحُـوْرُ