بقلم - مصطفي الفقي
أشعر بالدهشة فى المناسبات المختلفة أمام بعض الكفاءات المتميزة من أبناء هذا الوطن فى المجالات المختلفة، فأرى الأطباء العظام والمهندسين ذوى المكانة الرفيعة محليًا وعالميًا والخبراء المتميزين فى كل المجالات والشخصيات الدولية من القيادات الوطنية والعلماء الكبار وحملة جائزة نوبل وغيرهم فى كل التخصصات، ويزعجنى كثيرًا أن ذلك الرصيد الكبير لا تتم ترجمته واقعيًا إلى مكاسب حقيقية وعوائد ملموسة للوطن، بل نشعر أحيانًا بنقص الخبرة وسوء الإدارة على نحو غير متوقع، وذلك أمر شهدناه وواقع عرفناه على مر العصور ومختلف الأزمنة نتيجة التراكم الذى حدث بسبب إقصاء الكفاءات وتجريف المهارات وتغليب مشاعر الغيرة الشخصية على القدرات العلمية والكفاءات العملية، فضلًا عن طغيان الفرد على المؤسسة بل أحيانًا استبعاد ذوى الكفاءة لصالح أهل الحظوة، وأنا شخصيًا فوجئت بأن الأجيال الجديدة واعدة على نحو ملحوظ أكثر من أجيالنا التى تمضى إلى زوايا النسيان، فأنا أكتشف أحيانًا كفاءات رائعة بين الدبلوماسيين، باعتبار أن تلك كانت دائرة عملى بحكم التخصص فى السنوات الماضية، ولقد أتاحت لى متابعة المرافعات العربية فى جلسات محكمة العدل الدولية حول أحداث غزة أن أرى من بين أبنائى وتلاميذى عناصر مشرفة للغاية بل تدعو إلى الانبهار على نحو غير مسبوق، وأعترف هنا أيضًا أننى صادفت فى مجالات الحياة المختلفة شخصيات متميزة يحمل أصحابها كفاءات نادرة، بل إننى أزعم أن الأجيال الصاعدة تحمل فى طياتها من يتباكون على الزمن الجميل، ولكنهم دائمًا يتناسون أنهم كانوا يتباكون أيضًا على زمن سبقه، ولم يخطئ عبدالله بن المقفع فى مقاله عن فضل الأقدمين عندما تحدث عن غروب شمس الأخلاق وتوارى وهيج الفضيلة، واندثار القيم التى عرفها الآباء والأجداد حتى شاعت المأثورة القديمة التى تقول: «مررت على الفضيلة وهى تبكى فقلت علام تبكى الفتاة فأجابت كيف لا أبكى وأهلى من دون خلق الله ماتوا»، لذلك فإننى أرى أن هناك منظورًا عكسيًا يدعو إلى التفاؤل ويفتح بوابات الأمل، فأنا أرى أن الأجيال الجديدة أشد وعيًا وأكثر انفتاحًا على حقائق العصر والحداثة فيه بحكم التطورات الهائلة فى تكنولوجيا المعلومات والاندفاع السريع فى عالم الميديا، مع التسليم بوجود بعض السلبيات لهذا النمط الجديد من التفكير والتعبير، ولعلى أطرح هنا عددًا من مستندات الأمل ومصوغات العقول الجديدة وأتقدم ببعض أوراق الاعتماد للجيل الجديد من خلال العناصر التالية:
أولًا: إن أبواب المعرفة فى عصرنا مفتوحة على مصراعيها ونوافذ العلم مشرعة من كل اتجاه ولم تعد المعرفة أو العلم بحاجة إلى إمكانات مادية إذ إن مصادرهما أصبحت متاحة أمام البشر من مختلف القوميات والجنسيات دون تفرقة أو تمييز، فالشاب المصرى يستقبل من المعلومات نفس ما يستقبله الشاب الأمريكى أو اليابانى أو غيرهما فى أركان الدنيا الأربعة، كما أن المحظور من الحقائق العلمية أو الاختراعات المرحلية محدود للغاية، وأنا شخصيًا انبهر كثيرًا بقدرة أبنائنا وأحفادنا على التعامل مع آليات العصر الحالى وأدوات المعرفة الحديثة، حتى إن المرء يشكو أحيانًا أمامهم من نقص الخبرة وضعف المهارة.
ثانيًا: إن جدلية العلاقة بين العلم والفكر هى محور رئيس لفهم المستقبل، فالفكر يبدو كالكشاف الذى يضىء ذلك الطريق، أما العلم فهو فرس الرهان الذى يعدو فى ذلك المضمار، فالعلاقة بين العلم والفكر هى علاقة حاكمة لطرفى المعادلة الصعبة فى نظرية التقدم.
ثالثًا: إننى مؤمن بأن غدًا سيكون أفضل من اليوم ولا أتحمس كثيرا لمقولة ابن المقفع العكسية وبرهانى فى ذلك أن البشرية تتقدم، وذلك يعنى أنها تتجه إلى الأمام، ولكن لدينا دائمًا (نوستالجيا) أى حالة حنين إلى الماضى الذى يجعلنا نقدسه ونتباكى عليه، بينما هو لا يعدو أن يكون صفحة مطوية قد يرجع الفضل فيها بعد ذلك لأجيال قادمة، فأنا مؤمن بأن تفوق جيل معين يعود الفضل فيه إلى جيل سبقه تحت مسمى جيل يبنى وجيل يجنى، وليس صحيحًا أن الدنيا تتحرك إلى الخلف بل هى تتجه إلى الأمام برغم كل الأمراض المدنية وتوابع التقدم وسلبيات التكنولوجيا رغم كل ميزاتها العظيمة ونتائجها الباهرة إلا أننا نرى أن قوة الدفع ما زالت إلى الأمام فى اتجاه واحد.
رابعًا: إن الذين قالوا إن الحاجة أم الاختراع هم أيضًا الذين يقولون إن الحرية أم الإبداع، والأجيال الجديدة لو مارست حريتها وقدرتها على إبداء الرأى فى أجواء من العدالة والديمقراطية يمكن أن تتحول إلى داعم للمجتمع كله بكل اتجاهاته دون تمييز أو إقصاء، فالأجيال التى تتربى فى أجواء حرة هى الأقدر على صياغة المستقبل وتوجيه قاطرة التقدم على كل الأصعدة، أما الأجيال المقهورة فهى لا تستطيع مواجهة الحياة، ولا تدرك كيفية الحصول على الأمل فى كل وقت.
إننى أكتب هذه الكلمات وأمامى حكمة كبيرة معلقة على الحائط تقول: تفاءلوا بالخير تجدوه، وليس لدى ما أضيفه فى هذا السياق أكثر من ذلك.