توجد لاءات عربية ذات طابع سلبي وأخرى ذات طابع إيجابي. تشير اللاءات السلبية، مثل لاءات قمة الخرطوم في العام 1967، إلى رغبة في استمرار الجمود السياسي في المنطقة، فيما تعبّر اللاءات الإيجابية، مثل لاءات الأردن في شأن القدس ورفض توطين الفلسطينيين خارج أرضهم ورفض الوطن البديل، عن رغبة في دعم السلام والاستقرار الإقليميين وتكريسهما.
ليس سرّاً أنّ السلام والاستقرار غير قابلين للتحقيق من دون دولة فلسطينية مستقلة، تقوم بموجب شروط معيّنة، في مقدّمتها أن تكون دولة مسالمة في طبيعة الحال. يفرض وجود مثل هذه الدولة واقع لا يمكن الهرب منه مهما طال الزمن. لهذا الواقع اسم واضح هو الشعب الفلسطيني الموجود على خريطة الشرق الأوسط سياسياً. لا مفرّ من ترجمة هذا الوجود السياسي إلى وجود ذي طابع جغرافي في كيان محدّد المعالم.
عبّرت لاءات قمة الخرطوم التي تلت حرب يونيو 1967، عن عقل عربي عقيم لم يستوعب في حينه معنى الهزيمة وكيفية التعاطي معها. انعقدت وقتذاك في العاصمة السودانيّة قمة عربيّة خرجت ببيان يتحدث عن ثلاث لاءات: لا صلح، لا اعتراف، لا مفاوضات مع إسرائيل. لا شكّ أن إسرائيل رحبت في حينه باللاءات الثلاث التي خدمت مشروعها الهادف إلى تكريس الاحتلال للقدس ولقسم من الضفّة الغربيّة.
غابت وقتذاك عن العقل العربي فكرة الحلول العملية والقدرة على التصالح مع الواقع. لم تكن هزيمة 1967، سوى امتداد للرفض العربي لقرار التقسيم الذي صدر عن الأمم المتحدة في آخر نوفمبر من العام 1947، والذي قسّم أرض فلسطين بين العرب واليهود. قال العرب لا لقرار التقسيم، فكانت حرب 1948، التي أدت إلى تهجير مئات آلاف الفلسطينيين من أرضهم. لم يتعلّم العرب شيئاً من حرب 1948.
أخذ جمال عبد الناصر، مصر وسوريا والأردن إلى هزيمة 1967، بعدما وقع في فخّ رسمه له كثيرون، بمن في ذلك دوائر في الاتحاد السوفياتي كانت تعرف الكثير عن موازين القوى في المنطقة.
المهمّ في المرحلة الراهنة معالجة الخطورة الناجمة عن وجود إدارة أميركيّة ترفض التعاطي مع لاءات عربيّة إيجابية مثل لاءات الأردن الذي يصرّ منذ سنوات طويلة على خيار الدولة الفلسطينيّة. يطرح توجه ترامب، الذي دعا إلى توطين فلسطينيي غزّة في مصر والأردن، تساؤلات في شأن القدرة التي تمتلكها الإدارة على أن تكون في مستوى الأحداث التي يشهدها الشرق الأوسط.
في النهاية، لا يمكن لأي إدارة أميركيّة تجاهل الدور الأردني في المنطقة على الرغم من كلّ التغييرات التي طرأت، وهي تغييرات تشمل الوضع العراقي برمته والانقلاب الكبير في سوريا... إضافة إلى طبيعة الحال، في أن دولاً عدة في المنطقة لم تعد في حاجة إلى قناة ثالثة للتحدث إلى إسرائيل!
ثمة ثوابت أردنية يستحيل تجاوزها. في مقدّمة هذه الثوابت الدور الأردني في رسم حدود الدولة الفلسطينيّة وذلك منذ أن اتخذ الملك حسين، صيف العام 1988، قرار فكّ الارتباط مع الضفّة الغربيّة.
حدّد الأردن منذ فترة طويلة الإطار الذي لا سلام من دونه. ليست الإدارة الأميركيّة الحالية سوى إدارة أخرى ترفض الاعتراف بأنّ ثمة بدهيات لا يمكن تجاوزها وهي بدهيات عبّر عنها الملك عبدالله الثاني، بكلّ وضوح. فعل ذلك قبل خطابه التاريخي أمام مجلسي الكونغرس في السابع من مارس 2007، وبعده. أكّد العاهل الأردني الذي يمتلك بعد نظر وخبرة في شؤون المنطقة أنّ لا بديل من الدولة الفلسطينية المستقلة. الأهمّ من ذلك كلّه التشديد على أن الأردن ليس الوطن البديل كما يحلم بنيامين نتنياهو.
لا يجوز بالطبع تجاهل هجوم «طوفان الأقصى» الذي شنته «حماس». والذي لا يبرّر انضمام إدارة ترامب إلى اليمين الإسرائيلي الذي لا يمتلك أي مشروع سياسي لا على الصعيد الفلسطيني ولا على صعيد المنطقة.
ليس مطلوباً من إدارة ترامب أن تكون تابعاً لإسرائيل بدل أن تتولى دوراً قيادياً يأخذ في الاعتبار أنّه لا يمكن حلّ القضيّة الفلسطينيّة وتصفيتها على حساب دولة أخرى في المنطقة في حجم الأردن. في استطاعة الولايات المتحدة الاستفادة من تجارب عدة حاولت فيها تجاوز الأردن كما حصل في عهد الرئيس الراحل جيمي كارتر، الذي فعلت إدارته كل ما تستطيعه للإساءة إلى المملكة الأردنية الهاشمية وإلى الملك حسين، شخصياً في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي. لم ينجح كارتر في تعاطيه مع الأردن. كان كارتر، رئيساً ضعيفاً الذي لم يدرك في خريف العام 1979، أبعاد احتجاز أفراد طاقم السفارة الأميركيّة في طهران على يد «طلاب» تابعين للنظام الجديد الذي أقامه الخميني.
لن ينجح دونالد ترامب، الرئيس القوي، في تعاطيه مع الأردن أيضاً. يعود ذلك إلى جهله بهذا البلد ودوره على الصعيد الإقليمي وبالتجارب التي مر بها منذ نشأته. لا يمكن الاستخفاف بالأردن من جهة ولا يمكن، من جهة أخرى، تبسيط المشاكل العميقة التي تمرّ فيها المنطقة... عن طريق الارتهان لليمين الإسرائيلي. لا يمتلك اليمين الإسرائيلي مشروعاً سياسياً للمنطقة ودور إسرائيل فيها، كما لا يمتلك من خيار فلسطيني غير تهجير الفلسطينيين. يمكن أن تكون اللاءات الأردنية الإيجابية فرصة لترامب كي يصحّح توجهه وكي يقتنع بأنّ التطرف، أكان إسرائيلياً أو حمساوياً، يمثل الطريق الأقصر لمزيد من التوتر والاضطرابات في منطقة لا تزال تعاني من مخلفات المشروع التوسعي الإيراني الذي استهدف، بين من استهدف الأردن، عبر الجنوب السوري وعبر حدوده مع العراق...
هل يريد دونالد ترامب، الانضمام إلى مستهدفي الأردن الذي وقّع سلاماً مع إسرائيل منذ العام 1994؟