بقلم - مصطفي الفقي
لم أجد تعبيرًا لوصف ما يجرى فى السودان منذ أبريل 2023 من قتال ضاريٍ ودماءٍ مستباحة ودولة يجرى تدميرها بيد أبنائها، لم أجد إلا تعبير انتحار الشعوب للحديث عن مأساة السودان الشقيق الذى ينزف دمًا ويبكى دمعًا حتى تساءل المواطن العادى من أبناء ذلك البلد الأبى الإفريقى العربى لماذا هذا الذى حدث وأى ذنب جناه المواطن السودانى الآمن الذى عرف المعاناة طوال تاريخه؟ وها هو الآن يجرع كأسًا تطفح بالمرارة وتفيض بمشروب الهوان، لقد ابتلى السودان بحالات من الانقسام والانشطار ولا يجد حاليًا مخرجًا من ذلك المأزق الذى وضعه العسكريون فيه، فالسودان بلد يعشق الحكم المدنى ويدرك معنى الديمقراطية ويدين بالولاء المطلق للحريات ولكن الرياح أتت بما لا تشتهى السفن، وها هو السودان يواجه ضربات عاتية تقصف المدنيين وتروع الآمنين وتجعلنا نتساءل أى ذنب ذلك الذى جناه المواطن السودانى الذى يتقلب بين عذابات الحاجة الاقتصادية وغياب الأمن والأمان فلا هم أطعموا من جوع ولا هم أمنوا من خوف؟ إننى أظن صادقًا أن تحالف الفقر المادى والنزاع المسلح والحرب الضارية تمثل كلها تجمعًا خبيثًا ضد ذلك الشعب الطيب الوديع، إن بدنى يقشعر والطائرات تقصف الأحياء السكنية والراجمات تقتحم الشوارع والمدفعية الثقيلة تدق أعناق الوطن بلا رحمة أو عدل إن ذلك كله يعنى أن الدولة السودانية التى تمتلك مقومات الغنى زراعيًا وحيوانيًا وتكاد تمثل سلة الغذاء للمنطقة كلها تقع الآن تحت ضربات موجعة من أبناء الوطن الذى ينتمون إليه، وكأن لعنة حلت على ذلك الشعب وقسّمت صفوفه وأوغرت صدوره وقلبت حياته إلى جحيم يومى حتى أصبح خبرًا معتادًا فى الإذاعات وأجهزة التلفزة وعناوين الصحف حتى اعتاد عليه الناس حول تدهور أمنى وخراب سياسى وأصبحت قلوبنا تنفطر مع الأشقاء فى واحدة من أقسى المحن التى تعرضت لها الشعوب المعاصرة وقد نجمت عن فساد بعض الخلايا فى جسد السودان الذى كان ولا يزال بوابة العرب إلى إفريقيا وبوابة إفريقيا على العروبة أيضًا، إننى أتساءل كيف وصلت جرائم السودانيين خصوصًا فى حركة التمرد إلى حد الإقدام على ما فعلوه؟ وهل كان بيد الجيش السودانى خيار آخر غير الطائرات والمدافع؟ أسئلة تراود الذهن وتقلق الوجدان وتجعل الأمر مؤديًا إلى التخبط وعدم الفهم خصوصًا وأن أطرافًا أخرى غير سودانية قد شاركت وتشارك فى محاولة إعدام شعب السودان الذى لن يسقط أبدًا لأن له تاريخًا طويلًا وجوارًا جغرافيًا حضاريًا لا ينتهى، وقد كنا نتحدث كثيرًا عن نماذج الحروب الأهلية ولكننا لم نتحدث أبدًا عن نماذج لحرب عسكرية ـ عسكرية داخل الدولة الواحدة، وقد كانت المواجهات من قبل تدور فى الأحراش والجبال والوديان ولكنها لم تكن أبدًا بأسلحة الجيوش داخل المدن وفوق الكتل البشرية فى المناطق السكنية، وأنا أظن أن ما يجرى فى السودان لا يخلو من صراع على السلطة ورغبة جامحة فى التدمير مع غياب الوعى وقصر النظر وضعف البصيرة، يقولون إن صراعًا على الثروة يقف وراء دوافع الانتحار السودانى وأن مناجم الذهب تحديدًا وإغراءها لجماعات سودانية وغير سودانية قد أحال الأمر برمته إلى شيء لا يصدق فى محاولة لتمزيق واحدة من أكبر الكيانات الإفريقية وأكثرها ثراءً بالتاريخ والجغرافيا معًا، ويتساءل المرء أين عقلاء السودان؟ نعم لقد غاب الصادق المهدى بحكمته وعلمه ـ رحمه الله - فقد كان صديقًا عزيزًا مهمومًا فى السنوات الأخيرة بشعب وادى النيل وأزمة المياه ولكنه لم يشهد السودان وهو يواجه أزمة البقاء والحياة، أين الطيب صالح؟ وأين الفيتوري؟ وأين الشعراء والأدباء والعلماء فى دولة الأشقاء؟ أين روح سوار الذهب الذى تعفف عن مواصلة البقاء فى السلطة وهى فى يده، بينما يتكالب عليها الآخرون وهى حق الشعب السودانى دون غيره؟ إننى أهيب بمن شربوا من مياه النيل أن يجدوا الفرصة مواتية لرأب الصدع وجمع الكلمة فى ربوع السودان العريق وأنادى مخلصًا كافة الأطراف الخارجية قائلًا: ارفعوا أيديكم عن السودان.. ولتكن لكم مبادرات إيجابية حقيقية فى إيقاف تلك الحرب الضروس التى لا رابح فيها ولا خاسر بل الكل خاسرون، والسودان الذى كان يجب أن يتهيأ للبناء والتنمية أصبح مسرحًا للخراب والدمار فى صراع عبثى لا طائل من ورائه، وليحتكم الجميع إلى الشرعية وإلى دستور البلاد وإلى حكمة ذلك الشعب الذى يؤمن بالحرية بغير حدود ويتطلع إلى المستقبل آملًا النجاة والعودة إلى الرشد والإيمان بأن السودان كيان لن ينقسم مرة ثانية بفضل حكمة أبنائه ووقفة أشقائه ودعم أصدقائه.