كان مؤسس علم الاجتماع السياسى فى العصر الحديث العلامة ابن خلدون يردد دائماً: «أن ثورة الرعية على الحاكم لا تعنى دائماً أن غضبهم على حق أو على فَهْم».
وقبل أن يتهمنى أحد بالسعى إلى تشويه الثورات، فإننى أكرر ما سبق وقلته مئات المرات، بأن الثورات -أحياناً- تبدأ بأسباب نبيلة، وبمطالب مشروعة، لكنها فى معظم الأحيان تنحرف عن غرضها الأساسى ويتم اختطافها من قِبل قوى شريرة وانتهازية، أو تذهب بثورتها إلى حالة من الفوضى والانقسام والتشرذم عبر جسر طويل من الخسائر المادية والبشرية.
لذلك كله، ودون أى لف ودوران، فأنا أؤمن بالإصلاح الشامل المتدرج الفاهم لطبيعة الواقع، والقائم على العلم، والراغب فى اللجوء دائماً إلى شرعية الإنجاز الحقيقى.
وأمس الخميس دعا الاتحاد العام للشغل فى تونس (هو الاتحاد العام لكل النقابات المهنية) إلى الإضراب العام احتجاجاً على رفض الحكومة، التى يرأسها يوسف الشاهد منذ عامين تقريباً، رفع الأجور والرواتب.
ويبلغ عدد التابعين المنتمين إلى هذا الاتحاد قرابة 670 ألف مواطن، فى الوقت الذى تؤكد فيه الحكومة استحالة تحقيق هذا المطلب، لأن موارد الدولة ضعيفة وناضبة، وأن مثل هذا الإجراء سيؤدى إلى زيادة التضخم، وسيُضعف موقف تونس أمام المؤسسات المالية الدولية، مثل صندوق النقد الدولى والبنك الدولى اللذين تعهَّدا بدعم الاقتصاد التونسى مقابل التزامه، مثل غيره، بروشتة الإصلاحات القاسية المطلوبة.
ويبلغ تعداد سكان تونس 11 مليوناً، يعانون من تضخم يتردد أنه ما بين 15 و20٪، فى الوقت الذى ارتفعت فيه أسعار كل السلع والخدمات فى العامين الماضيين بمعدلات جعلت الحياة شديدة الصعوبة على الطبقات العاملة من الشرائح البسيطة أو المتوسطة.
ولم ينفع أى حوار حقيقى بين الحكومة واتحاد الشغل، لأن شخصيتَى رئيس الحكومة الذى يؤمن بالاقتصاد الحر وآلياته، ورئيس اتحاد الشغل الذى يتأثر هو وأعضاء نقاباته بالفكر اليسارى الاشتراكى العالمى على النمط الفرنسى، فى حالة تصادم فكرى وعقائدى وشخصى، لذلك فإن آخر اجتماع بينهما لم يستغرق أكثر من 3 دقائق وانفضَّ دون نتائج مع إصرار كل طرف على موقفه.
هنا نأتى للسؤال الحائر الذى ينقسم البعض فيه إلى مدرستين، الأولى عاطفية مبدئية أخلاقية، والثانية واقعية عملية وعلمية.
الأولى تقول إن واجب الدولة ممثلةً فى الحكومة دعم الطبقات الكادحة، وتأمين سبل الحياة لهم مهما كانت التكاليف.
والثانية تقول إن تمويل الأجور والرواتب دون وجود موارد حقيقية تنفق عليها يؤدى عاجلاً أو آجلاً إلى ارتفاع التضخم وإلى خراب اقتصادى، وإضعاف الثقة فى الاقتصاد.
هنا نعود مرة أخرى إلى الحالة الشعبوية التى خلَّفتها «السترات الصفراء» فى فرنسا وبدأت فى الانتقال إلى دول أوروبية، وإلى السودان والعراق، والآن فى تونس.
هذه الحالة تطالب بحقها فى تحسين أوضاعها، بصرف النظر عن قدرة الدولة والحكومة على تحقيق ذلك.
إنه صدام مخيف أمامه حلَّان: إما الاستجابة لمطالب الناس بصرف النظر عن العواقب وتأجيل الكارثة المالية، أو رفض المطالب والدخول فى صدام شوارع يؤدى إلى هز الاستقرار.
استنساخ حل شعبوى.. عصر ما يطلبه المتظاهرون!