حسن البطل
لسببٍ ما، ذكّرني ابراهام بورغ بما قاله الصوفي الإسلامي ابن عربي، سوى أن بورغ اليهودي الإسرائيلي الصهيوني .. والسياسي ليس صوفياً.
ماذا قال ابن عربي: «اول علائم صدق المريد فيما يريد دعوته للحق. أولى علائم دعوته للحق رجوعه للخلق.. لكن ماذا بعد رجوعه للخلق؟ خروجه للحق؟
عاش ابن عربي في الأندلس، في القرن السابع الهجري، وأما رئيس الكنيست ـ سابقاً، ورئيس الوكالة اليهودية ـ سابقاً، ورئيس المنظمة الصهيونية العالمية ـ سابقاً، فهو يعيش في القرن الواحد والعشرين، وفي هذه الأرض المقدسة، وله، بعد انقلابه الفكري والسياسي والأيديولوجي.. والشخصي، ما يشبه «رؤيا أندلسية» لسلام بين شعبين، دون تقسيم البلاد دولتين، ودون الدولة الواحدية، أيضاً.
الانقلاب، أو السباحة ضد التيار الغلاب في إسرائيل، نقله إلى الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة. سلام بين شعبين (ودولتين!) ومساواة في دولة إسرائيل بين شعبيها: «انتقلت للجبهة من أجل مساواة في الحقوق».
تبدأ المساواة بـ «الحق ذاته للناس بين البحر والنهر»، وتبدأ بـ «نقل الخطاب الإسرائيلي من الخطاب الصهيوني الوطني إلى المساواة في الحقوق».. وتبدأ، أيضاً، بالمساواة بين «الهولوكوست» و»النكبة».. سياسياً.
اللقاء المحدود مع بورغ في مقر «تحالف السلام» كان عصفاً فكرياً. لكن لا يخلو من دعابة، لأن بورغ ليس محاضراً جهماً، بل دافئ القلب، نيّر الفكر.. ومجدّد.
لا تكفي الشجاعة، وهو شجاع، لكن تلزم الشجاع ـ كما يقول ـ رؤية عميقة وبعيدة النظر، للخروج من حالة سياسية كثيرة التداخل، وخطيرة، لكن يمكن أن تكون فرصة للتغيير.
أين تكمن فرصة التغيير؟ رؤية جديدة للتفكير الصهيوني ـ الإسرائيلي الكلاسيكي. هل هذا ممكن؟ هو يقول: اليهود ليسوا صريحين وحاسمين مثل الأميركيين. الأوّلون يقولون: «نعم.. ولكن» والأخيرون إما «لا». أو «نعم».
بين سؤال وجواب، كان بورغ «يقفش» دعابة، مثل سؤاله عندما قدموا القهوة العربية «هل الشاي حلال» أو دعابته عن والده الألماني (يوسف بورغ ـ رئيس «المفدال») أنه كان شرهاً للأكل «مثل صائب عريقات قبل أن يعمل ريجيماً». ذكرنا أن أمه يهودية ـ خليلية (من يهود فلسطين).
لم تفاجئني أفكاره منذ أن عرضها في كتابه «لننتصر على هتلر» (منشورات «مدار») لكن انضمامه لـ «حداش» شكل مفاجأة صادمة لصديقه يوسي بيلين، لأنه انضم إلى حزب «غير صهيوني».
مفاجأتي الشخصية هي روحه المرحة، ودعابته الساخرة، حتى كدت أسأله، مازحاً، كيف كان يضع «الكيبا» المطرّزة على رأسه الأصلع.
بورغ يجد إيجابية في أوسلو. لماذا؟ لأنها أدخلت فكرة الفصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين. هل إسرائيل ديمقراطية؟ في رأيه أن الإسرائيليين يصوّتون لشيء ويحصلون على آخر.. الآن حصلوا على رئيس وزراء يرفع شعاراً يقول: دولة اليهود الديمقراطية. بورغ لا يقبل هذا الخلط.
كان اسحق دويتشر اليهودي قد وضع كتاباً عنوانه «اليهودي ـ اللايهودي».. والآن يتحدث شلومو ساند عن «اختراع الشعب اليهودي» ليصل إلى «لماذا لم أعد يهودياً».
كيف يرى بورغ «يهودية الدولة»؟ إنها تشتّت بين الثقافة والدين والسياسة والتاريخ. كيف يرى شرط السلام؟ حل مشكلة اللاجئين الفلسطينية أولاً لأنها موضوع «إنساني» قبل أن يكون «سياسياً».
يعارض بورغ شخصياً «حل الدولتين» لأنه «انتهى»، لكن يعارض «الدولة الواحدة» لأنه غير ممكن فهو في الظرف الحالي، دولة لصالح شعب ضد شعب آخر. إنه مع نموذج الحل الأوروبي، أي ما يشبه الكونفدرالية ذات ثلاث طبقات: 1ـ تعريف من هو اليهودي، الإسرائيلي، الفلسطيني، اللاجئ. 2ـ جسم تنفيذي موحد لكل شيء وكل الأطراف. دستور موحّد.
لا أتفق معه حول أن «حل الدولتين» انتهى، لكن أتفق معه على حل كونفدرالي. هل هذا ممكن؟ يقول خلافاً للانطباع فإن الشعب الإسرائيلي يصغي للمرة الأولى، كما أن أوروبا جاهزة لاستقبال أفكار جدية حول العمل المشترك العربي ـ اليهودي.
***
حرص ياسر عبد ربه، بعد انفراط اللقاء، على تعريفي إلى بورغ كأول من كتب عنه: المنشق، المتمرّد.. المرتد (الاثنين 12/1/2015) وطرحت على بورغ ثلاثة أفكار حول القدس، والغور، والأمن الأعلى والأمن الجاري (الأمن لإسرائيل، والسيادة لفلسطين).
قناعتي منذ سنوات، يمكن الحوار مع إسرائيليين، لكن يصعب على المثقفين الفلسطينيين الحوار مع القوميين العرب الفاشيين أو الجهاديين الإسلاميين.. في المقابل يسهل على إسرائيل الحوار مع فلسطين، ويصعب عليهم ذلك مع القوميين الصهيونيين أو الأصوليين اليهود.