بقلم - حسن البطل
من رثاء غزير استوقفني «صدمة» قيس مراد لرحيل عز الدين المناصرة، وقصة «جفرا» كما أوجزها عماد الأصفر. هذه ثاني «صدمة» أتلقاها بعد صدمتي برحيل صديقي وزميلي، جواد البشيتي، مدير تحرير جريدة «العرب اليوم»، فالاثنان أصغر مني بسنوات قليلة أو كثيرة، ورحلا بالجائحة الكورونية، بفارق شهور قليلة في عمان.
في غرفة واحدة من مقر «فلسطين الثورة» ـ البيروتية زاملت الشاعر المناصرة سنوات كمحرر ثقافي، كما زاملني الأديب محمود شقير شهوراً، بعد إبعاده من فلسطين التي عاد إليها.
نعم، ككثيرين غيري قرأت قصيدته «جفرا» وكذا «يا عنب الخليل»، لكنني ربما وحدي من جيله الذي رأيته بالكاكي والبارودة، وقرأت كتابه التسجيلي عن انخراطه في معركة حي «الشيّاح» في بيروت، المعنونة «عشاق الرمل والمتاريس» وشاركه في تلك المعركة زميلنا رشاد عبد الحافظ، الذي تلقى طلقة قناص قاتلة بين عينيه، وكان واحداً من أذكى من عرفت.
كمحرر ثقافي في مجلة المنظمة المركزية، يسجل للشاعر المناصرة مثابرته على كتابة مقالات أو إعادة نشرها عن أدباء الأرض المحتلة، ما وراء «الخط الأخضر»، كما كانت الريادة في ذلك للأديب غسان كنفاني الذي كان علماً من أعلام فلسطين.
كانت تصلنا، عبر ممثلية المنظمة في نيقوسيا، أعداد جريدة «الاتحاد» ومجلة «الغد» زاد الزميل مناصرة، وأيضاً زادي في مقالات سياسية عن الأرض، قبل يوم الأرض، وعن انتخابات بلدية الناصرة، من قبل ومن بعد، إلى مقالة عن ضرورة لقاء بين «فتح» و»راكاح»، ما دفع ماجد أبو شرار، مفوض «الإعلام الموحد» إلى طرح الموضوع في اللجنة المركزية للحركة.. وحصل لقاء براغ التاريخي، بمشاركة أبو شرار، وإلى اليوم، أعتقد أنه اغتيل من «الموساد» لهذا السبب!
المناصرة لأسبابه لم يرافق ما تبقى من كادر «فلسطين الثورة» في العودة إلى «الجزء المتاح»، وأما جواد البشيتي، الشبل المقدسي الأصغر، فلأسباب «الدم على الأيدي» الأمنية الإسرائيلية.
منذ خروج بيروت لم ألتقِ بشاعر «جفرا» و»عنب الخليل»، لكن منذ توقف «فلسطين الثورة» بعد أوسلو، لم ألتقِ جواد البشيتي، الذي كان ينشر مقالاتي في «الأيام» في جريدة «العرب اليوم»، لكن رثيته في مقال، وعليّ أن أرثي المناصرة أيضاً، مع أن جواد يصغرني بسنوات كثيرة، والمناصرة فوجئت من الرثاء الغزير، أنه يصغرني بثلاث سنوات، والاثنان رحلا بسبب الجائحة اللعينة ذاتها، التي قد أرحل بسببها أو بغير سببها؟
أتذكر طريقة المناصرة في التدخين، وضحكته، ومشيته المختالة، وقط لم أره غاضباً، بل يتذكره خالد درويش كقاضي صلح في فضّ خلافات المثقفين السياسية في منافي أوروبا، حيث كان يجمعهم على طبخة مقلوبة، وأظنه كان يفعل الشيء ذاته في بيروت غالباً.
شارك صديقي نصري الحجاج في رثاء المناصرة بصورة تجمعه في عمان مع زعيم حركة الرصيف الثقافية البيروتية رسمي أبو علي، لكن المناصرة الملتزم لم يكن عضواً فيها، بل صديقاً للجميع، وحمل علي فودة الراية حتى مصرعه.
بعد خروج بيروت، اختار المناصرة درب الأكاديميا، وحصل على شهادة الدكتوراة، وصار أستاذاً في الجامعات الأردنية، لكنه خلاف رسمي وشقيقه عميد السينما الفلسطينية لم يزورا الجزء المتاح من البلاد، كما فعل الشاعر أحمد دحبور، الذي عاد وأقام ووري الثرى في رام الله.
في الشعر الفلسطيني لدرويش الكبير زملاء وأصدقاء كبار، وفي مقدمتهم الشاعران مناصرة ودحبور، وهما صديقان حميمان لبعضهما البعض.
لأسفي، لا أعرف الشيء الكثير عن مؤلفات ودراسات الشاعر عز الدين المناصرة بعد مرحلة الزمالة البيروتية، وسأقرأ عن هذا بعد مقالات ستنشر عنه بعد رحيله، لكن صورة المناصرة شاباً في بيروت لا تبرح البال، ولا عاداته في التدخين؛ ولا كتابه التسجيلي عن مساهمته في معركة الشياح، والدفاع عن «الشعب والثورة والمنظمة»، وبالطبع كيف كان يعود من متاريس معركة الشياح ليكتب مقالاته في «فلسطين الثورة». صورة المثقف الثوري تنطبق على الشاعر المناصرة والشاعر دحبور، وأيضاً على رشاد عبد الحافظ الذي سقط على سلاحه، ولم تحظ عيناه برؤية طفله الأول والأخير.
يقال في الرثاء، إن رحيل هذا وذاك «خسارة لا تُعوّض» لكن هذا ليس صحيحاً إلّا في الرثاء، لأن المقابر ملأى برجال كبار، قادة ومثقفين وشعراء وأدباء، لكن آثارهم وأعمالهم باقية بعدهم: «هزمتك يا موت الفنون جميعها».
وتبقى قصيدة «جفرا» وديوان «يا عنب الخليل» علامة ومنارة لأجيال جديدة، ولو أن «شمل الحبايب ضاع واتكسروا أقداحو»!
هل «تعب الرثاء من الرثاء» كما قال درويش في مراثيه قبل رحيله؟ كلّا لم يتعب.. ولا يتعب الموت من الموتى!
حسن البطل