القاتل الجديد ليس القاتل الكبير

القاتل الجديد ليس القاتل الكبير

القاتل الجديد ليس القاتل الكبير

 العرب اليوم -

القاتل الجديد ليس القاتل الكبير

غسان شربل
بقلم: غسان شربل

استولَى القاتلُ الجديدُ على اهتمامات الناس. احتلَّ موقعَ الصدارة في الدوائر الرسمية والهيئات الصحية والمنظمات المعنية بصحة الناس ومصيرهم. ليست المرة الأولى التي يواجه فيها العالم قاتلاً من هذا النوع. الجديد أنَّه يرتكب جرائمه في العالم الجديد. لو أطلَّ «كورونا الجديد» قبل نصف قرن لكان الأمر مختلفاً. كان يمكن أن يصطادَ ضحاياه وسط تكتم رسمي صارم يعد وجود الوباء وانتشاره سراً من أسرار الدولة لا يجوز كشفه، لا أمام المواطنين ولا أمام العالم. وربما كنَّا عرفنا قصته بعد عقود، وقرأناها في مذكرات شخص عايش تلك المخاوف، وخبأ تفاصيلها في أوراقه، لكنَّنا نعيش في عصر آخر. لم يعد للأسرار مكان. الهاتف الصغير جاسوس يرفع تقاريره إلى العالم بأسره. تكفي صورة أو رسالة مقتضبة لإشراك العالم بأسره فيما يجري في قرية بعيدة منسية.

عالم الصمت والتكتم لم يعد قائماً. كل الأسرار منشورة على حبال الإنترنت. لكن المخيف هو أن وسائل التواصل الاجتماعي التي ألغت هيبة الحدود والسدود ألغت أيضاً كل رقابة على الإشاعات والمبالغات وسيناريوهات التخويف والتضليل. إنَّنا أمام أنهار من الرسائل والفيديوهات تتدفَّق على مدار الساعة. وما أصعب التأكد من صحة الكلام أو دقته. والأمر مقلق حين يتعلَّق بوباء لم تنجح المختبرات بعد في فض أسراره، وأسباب انتشاره، وطرق علاجه.

ولا غرابة أنْ يقلقَ العالم. بدأت القصة في مدينة ووهان الصينية، ثم تبيَّن أنها أكبر وأخطر. كل يوم، تنشر لائحة الضحايا الجدد. وكل يوم، يعلن عن تسلل الفيروس إلى عنوان جديد، أو إشاعات عن تسلله. كأنَّ المرء يقرأ رواية لكاتب بارع يجيد تعميق مخاوف المتصفح. يكفي الالتفات إلى قصة السفينة «دايموند برنسيس» التي حُجِر عليها قبالة السواحل اليابانية، والتي عدت البؤرة الأساسية للوباء خارج الصين. سيُكتَب الكثير لاحقاً عن معاناة الذين قضوا في المستشفيات، وعن عذابات الذين انتظروا الموت في منازلهم، وعن الذين نقلوا العدوى إلى أفراد من عائلاتهم.

أطلق الفيروس حالة من الذعر لم نشهد مثيلاً لها، رغم قسوة الحروب والنزاعات التي عاشتها أجزاء مختلفة من العالم. خوف في المطارات والقطارات والسفن، وخوف في المدارس والجامعات والمستشفيات. شعرت الحكومات بضغط الأنباء المؤلمة. ارتبكت وخافت من تهمة التقصير. هكذا، أُلغيت رحلات، ومُنع دخول جنسيات معينة. وأُلغيت مباريات، أو تقرر إجراؤها في غياب الجمهور.

كشف انتشار الفيروس هشاشة العالم. لا يحتاج حرباً طاحنة ليغرق في القلق. تضاعف الأمر حين أطلَّ القاتل الجديد في دول أخرى، ككوريا الجنوبية وإيران وإيطاليا وغيرها. كان الامتحان قاسياً لمستوى الأجهزة الصحية والوقائية في هذه البلدان. تحركت منظمة الصحة العالمية بسرعة، ووفرت إمكانات ووسائل، لكن المواجهة تتعلق في النهاية بجهوزية كل دولة، وقدرتها على توفير رد سريع على «العدو الرقم واحد». استحال الأمر امتحاناً للحكومات والمؤسسات الطبية، خصوصاً حين ضاعف الهلع الأعباء، وكانت الإشاعات أسرع انتشاراً من العدوى.

تسبب فيروس «كورونا» حتى الآن في خسائر اقتصادية هائلة، خصوصاً أنَّه انطلق من الصين، أي من «مصنع العالم». خسائر في الصناعة والتجارة والسياحة ستصيب شراراتها إيطاليا أيضاً، وبعدها إيران. تسبب الفيروس كذلك في مشاهد إنسانية مؤلمة في عالم كثير التداخل والأسفار والاختلاط. رفض راكب الجلوس إلى جانب صيني في الطائرة أو القطار. رفض مواطن في بلد بعيد التوجه إلى المطعم الصيني الذي كان يرتاده. أوجد حالة من العزلة حول أفراد، وكذلك حول الدول التي تسلل إليها. الدول المجاورة تغلق حدودها مع البلد المصاب، وتمتنع عن استقبال مواطنيه، وتنصح رعاياها بعدم زيارته.

والمخاوف تحمل الأسئلة: إذا كانت دولة بقدرات الصين عاجزة عن احتواء الفيروس سريعاً، فماذا يحدث لو تفشى الوباء في دولة متصدعة أو ذات إمكانات قليلة ومؤسسات قديمة؟ ماذا يحدث مثلاً لو ظهر القاتل الجديد في مخيمات للاجئين لا يتوافر فيها أصلاً الحد الأدنى من الرعاية الصحية لمواجهة الأمراض العادية؟ وماذا لو اضطر العالم إلى العيش لشهور مع أنباء انتقال الفيروس وضحاياه، وصعوبة وضع حد نهائي لانتشاره؟

أول رسالة لا بدَّ من التقاطها مما نعيشه اليوم هي ضرورة التفات الحكومات، وعلى نحو جدي، إلى مؤسساتها المولجة بالدفاع عن حياة الناس، أي المؤسسات الصحية وخدمات الإطفاء والدفاع المدني، وكل جهة معنية بالتصدي للأوبئة والكوارث على أنواعها. لا مهمة أسمى من مهمة حماية حياة الناس. وبديهي أنَّ أموالاً كثيرة تنفقها الحكومات في مجالات أقلَّ أهمية أو إلحاحاً يجب أن توجه لتعزيز هذه المؤسسات لتمكينها من إنقاذ المصابين أو المهددين.

جيدٌ أن يرفعَ العالم الصوت محذراً من خطورة القاتل الجديد، وأنْ تساهمَ وسائل الإعلام في التوعية والتحذير والإرشاد، وأنْ يستنتجَ كل فرد أن العالم أكثر ترابطاً مما يعتقد، وأنَّ شرايين القرية الكونية متداخلة. إنَّها حالة تضامن إنساني تقدم شيئاً من العزاء، في وقت تنتشر فيه أزمات الهوية، ويغرف كثيرون من آبار الكراهية والرغبة في شطب الآخر.

وعلى الرغم من الذعر السائد، لا بدَّ من الواقعية. القاتل الجديد ليس القاتل الكبير. أرقامه شديدة التواضع، إذا قِيستْ بحصيلة المطاحن الدموية المفتوحة على مصراعيها في بلداننا. حروب الدول المتآكلة والخرائط المثقوبة والتدخلات والاستباحات. «كورونا الجديد» قاتلٌ بشعٌ، لكن حجم جرائمه لا يرتقي إلى حجم المذابح التي تروّع بلداننا، أو ما تبقَّى منها. ليتَ العالم يرفع صوته متحداً ضد أمواج الكراهيات والمسالخ البشرية المفتوحة، والسياسات المغرورة التي تمطر دماً فوق البلاد المفككة.


 

arabstoday

GMT 00:23 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

إسرائيل و«حزب الله».. سيناريو ما بعد التوغل

GMT 00:28 2024 الخميس ,13 حزيران / يونيو

مكاشفات غزة بين معسكرين

GMT 00:37 2024 الخميس ,16 أيار / مايو

التطبيع بعد القمة!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

القاتل الجديد ليس القاتل الكبير القاتل الجديد ليس القاتل الكبير



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 21:12 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

بايدن يعلن التوصل إلى إتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل
 العرب اليوم - بايدن يعلن التوصل إلى إتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل

GMT 19:32 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

رانيا فريد شوقي تكشف سبب ابتعادها عن السينما
 العرب اليوم - رانيا فريد شوقي تكشف سبب ابتعادها عن السينما

GMT 08:36 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته

GMT 02:40 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

القهوة والشاي الأسود تمنع امتصاص الحديد في الجسم

GMT 06:59 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

فلسطين و«شبّيح السيما»

GMT 07:22 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

دراسة تحذر من أن الأسبرين قد يزيد خطر الإصابة بالخرف

GMT 09:52 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

كفاءة الحكومة

GMT 06:45 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

لبنان يقترب من وقف النار

GMT 10:19 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

جهود هوكستين: إنقاذ لبنان أم تعويم «حزب الله»؟

GMT 16:54 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

روسيا تتعاون مع الحوثيين لتجنيد يمنيين للقتال في أوكرانيا

GMT 02:58 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

11 شهيدًا في غارات للاحتلال الإسرائيلي على محافظة غزة

GMT 06:56 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

فرصة إيرانية ــ عربية لنظام إقليمي جديد

GMT 19:23 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

ميادة الحناوي تحيي حفلتين في مملكة البحرين لأول مرة

GMT 03:09 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

عدوان جوي إسرائيلي يستهدف الحدود السورية اللبنانية

GMT 07:58 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

اندلاع حريق ضخم في موقع لتجارب إطلاق صواريخ فضائية في اليابان

GMT 07:53 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

ألمانيا تحاكم 4 أشخاص بزعم الانتماء لـ "حماس"

GMT 06:54 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

النموذج السعودي: ثقافة التحول والمواطنة

GMT 07:10 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

تحذير أممي من تفشي العنف الجنسي الممنهج ضد النساء في السودان
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab