عن مسارات «الزعامة» في لبنان

عن مسارات «الزعامة» في لبنان

عن مسارات «الزعامة» في لبنان

 العرب اليوم -

عن مسارات «الزعامة» في لبنان

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

في الخمسينات، كان الأتباع يؤلّفون تحيّاتٍ لزعمائهم تُهتف في المناسبات، خصوصاً منها المعارك الانتخابيّة. الهتافات، ومعظمها موقّع ومُقفّى، كانت تنضح بالتزلّم، فيقال مثلاً للزعيم العكّاري سليمان العلي: «سليمان بيكْ لا تهتمّْ - عندكْ زلمْ بتشربْ دمّْ». وكانت الأمور تزداد فداحة في حالة أحمد الأسعد في الجنوب، الذي شبّهه تابعوه بالثور الكبير وشبّهوا أنفسهم بالذباب، فإذا حرّك ذنَبه يمنة أو يسرة سحقهم و«مَعْمَسَهم». وبنفسي كنتُ قد شاهدت كمال جنبلاط في قصره بقرية المختارة قبل أشهر على اندلاع «حرب السنتين». يومذاك بدت مدهشة، وهو «التقدّمي الاشتراكيّ»، عجرفته التي تقابلها جموع المؤيّدين بإذعان كامل. كانوا يعبرون صفوفاً لمصافحته، وهو يمنحهم يداً باردة مرتخية ونظرة مشبعة بالقرف.
جنبلاط كان لقبه، ولقب كلّ من يحلّ سيّداً في المختارة، «ابن عمود السماء». لكنّ العجرفة التي عُرف بها كامل الأسعد، ابن أحمد، لم تستنجد إلاّ لماماً بالسماء. فهي «أرضيّة» جدّاً تتدخّل في أدقّ تفاصيل القرى من شرفة بالغة العلوّ والعتوّ.
على أي حال، فزعماء هذا النمط كانوا أشدّ حضوراً في الأطراف، كالجنوب والبقاع وعكّار، أو في مناطق جبليّة، كالشوف جنوباً وزغرتا شمالاً، لم تتوغّل فيها العلاقات الرأسماليّة، ولم تنجح الأسرة النواة في إزاحة الأُسَر الممتدّة. هناك، حيث تماسكت ملكيّات الأرض الكبيرة، كانت حصّة معتبرة من المواليد الذكور يتسمّون على اسم الزعيم. فهو يزوّدهم بـ«خدمات» أبرزها توظيف أبنائهم في الإدارات والجيش، وفي خدماته اندرج توفير حدّ أدنى من البنى التحتيّة لمناطقهم (مدرسة أو طريق فرعيّة) نيابة عن خطّة تنمويّة غائبة، و«الدفاع» عنها وعن «كرامتها» في وجه مناطق أخرى ملاصقة جغرافيّاً، أو ذات هويّة طائفيّة مختلفة. أمّا هم فكانوا يبادلونه الولاء الذي يُترجَم أصواتاً انتخابيّة، كما يحتشدون هاتفين في المناسبات التي يراد منها إظهار شعبيّته. وكانت بعض المناطق تبالغ، فتجمع تبرّعات ماليّة لمعركته الانتخابيّة أو لحفل زفاف لواحد من أنجاله. ويُروى عن الرئيس الراحل سليمان فرنجيّة أنّ مؤيّديه الزغرتاويين كانوا يتطوّعون بتقديم الطعام والشراب للولائم التي يقيمها لضيوف «أجانب»، أي لزعماء أنداد من خارج المنطقة.
في المركز البيروتي والجبليّ، لعب جهاز الدولة ما لعبته الملكيّات الزراعيّة في الأطراف. إلاّ أنّ الزعيم هنا كان «مركزيّاً»، مثل دولته، يتجسّد في رئيس الجمهوريّة. والحال أنّ اسمين تقاسما هذه الوظيفة بين استقلال 1943 وانفجار حرب 1975: كميل شمعون وفؤاد شهاب. أوّلهما أسعفته كاريزميّته وما سُمّي دفاعه عن المسيحيين في مواجهة «ثورة 1958»، وعن لبنان في مواجهة عبد الناصر. وكان للميثولوجيا ذات المصدر الطبيعي دورها: ذاك أنّ والد شمعون اسمه نمر، وأبوّة النمر، تبعاً لقوّته وشراسته، تخدم وظائف «الرجولة» والشجاعة التي نيطت بشمعون. هكذا زُيّن عدد من المواليد الجدد باسمي «كميل» و«نمر».
أمّا شهاب فخباؤه ونقص كاريزماه تركا صناعة زعامته لجهاز «الشعبة الثانية» وامتداداته في إعلام مطواع. وبالفعل تفتّق العقل الجهازي عن وصف فقير هو أنّه «القدّيس». لكنّ رفع الموصوف إلى تنزيه متعالٍ لم يحل دون ولادة التسمية وهي مجبولة بمحنتها. ذاك أنّ المُغالين المسيحيين في حبّ القدّيسين كانوا مغالين في كره شهاب واعتباره متحيّزاً للمسلمين.
وبدورها فالحرب لم تقتل الزعيم، بل «دمقرطَتْه» بمعنى الإفراط في التكاثر. هكذا صار عشرات اللبنانيين والفلسطينيين من قادة الجبهات والتنظيمات يُستقبلون، ما إن يلوح ظلّهم، بهتاف «بالروح، بالدم نفديك يا...»... وبعدما كانت عبادة السوريين القوميين لأنطون سعادة وزعامته المعصومة ظاهرة نافرة، حلّ ابتذال للزعامة التي تفشّت على أوسع الأصعدة وأدناها.
وفي المعمعة، اختارت الطوائف معبوديها الكبار، فكان موسى الصدر للشيعة، وبشير الجميّل للموارنة، فما إن حلّ السلم حتّى تغلّب الوجه الأبوي للزعيم على وجهيه القتالي والديني الذي يصعب فكّه، في حالة لبنان، عن الطائفيّ.
وما بين رفيق الحريري بوصفه «بي (أب) للفقير» ولاحقاً ميشال عون بوصفه «بي الكلّ»، استعيد ما كان يبدو تندّراً وقدامة عثمانيّة في تسمية سامي الصلح «بابا سامي». لكنّ الحرب المقيمة في سلامنا آثرت ألا تستسلم لأبوّة محدودة القدرات، أبوّة يمكن قتلها، كما في حالة الحريري، ويمكن التفرّج على هزالها فيما هي تتشدّق بالقوّة، كما في حالة عون.
وبالفعل انفجر في هذه المسافة الزمنيّة الطويلة نسبيّاً ما بدا أنّ التمدّن قد كبته، وأنّ استواء الأمور على نصاب مدني قد أخمده. ففي نبيه بري قيل: «لولا الهاء لكنتَ نبيّاً»، وفي حسن نصر الله استهلك معظم أفعل التفضيل المضمّخ بالقداسة.
ومع انهيار الزعامات كشبكات توزيع، من ضمن انهيار مالي واقتصادي عامّ، ظهر صبيحة 17 تشرين شبّان وشابّات يسائلون الزعامة ويطعنون بالتوريث، بل يمنعون الزعماء من مغادرة بيوتهم والظهور في الفضاء العامّ. وهذا ما افتتح طوراً لا يزال من المبكر وصفه، إذ لم يلد حتّى الآن سوى «زعامة» حسّان دياب الذي يعاني معظم اللبنانيين وهم يحاولون تذكّر اسمه.

arabstoday

GMT 00:23 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

إسرائيل و«حزب الله».. سيناريو ما بعد التوغل

GMT 00:28 2024 الخميس ,13 حزيران / يونيو

مكاشفات غزة بين معسكرين

GMT 00:37 2024 الخميس ,16 أيار / مايو

التطبيع بعد القمة!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عن مسارات «الزعامة» في لبنان عن مسارات «الزعامة» في لبنان



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 21:12 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

بايدن يعلن التوصل إلى إتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل
 العرب اليوم - بايدن يعلن التوصل إلى إتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل

GMT 08:36 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته
 العرب اليوم - أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته

GMT 19:32 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

رانيا فريد شوقي تكشف سبب ابتعادها عن السينما
 العرب اليوم - رانيا فريد شوقي تكشف سبب ابتعادها عن السينما

GMT 08:36 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته

GMT 02:40 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

القهوة والشاي الأسود تمنع امتصاص الحديد في الجسم

GMT 06:59 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

فلسطين و«شبّيح السيما»

GMT 07:22 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

دراسة تحذر من أن الأسبرين قد يزيد خطر الإصابة بالخرف

GMT 09:52 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

كفاءة الحكومة

GMT 06:45 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

لبنان يقترب من وقف النار

GMT 10:19 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

جهود هوكستين: إنقاذ لبنان أم تعويم «حزب الله»؟

GMT 16:54 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

روسيا تتعاون مع الحوثيين لتجنيد يمنيين للقتال في أوكرانيا

GMT 02:58 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

11 شهيدًا في غارات للاحتلال الإسرائيلي على محافظة غزة

GMT 06:56 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

فرصة إيرانية ــ عربية لنظام إقليمي جديد

GMT 19:23 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

ميادة الحناوي تحيي حفلتين في مملكة البحرين لأول مرة

GMT 03:09 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

عدوان جوي إسرائيلي يستهدف الحدود السورية اللبنانية

GMT 07:58 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

اندلاع حريق ضخم في موقع لتجارب إطلاق صواريخ فضائية في اليابان

GMT 07:53 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

ألمانيا تحاكم 4 أشخاص بزعم الانتماء لـ "حماس"

GMT 06:54 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

النموذج السعودي: ثقافة التحول والمواطنة

GMT 07:10 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

تحذير أممي من تفشي العنف الجنسي الممنهج ضد النساء في السودان
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab