حين تكون الهزائم ولا تكون

حين تكون الهزائم ولا تكون!

حين تكون الهزائم ولا تكون!

 العرب اليوم -

حين تكون الهزائم ولا تكون

بقلم :حازم صاغية

 

ليس صحيحاً ما يقوله مولعون بالتعميم حين يقرّرون أنّ «العرب لا يعترفون بالهزائم حين ينهزمون». ففي 1948، وخصوصاً في 1967، اختلفت الآراء حول كلّ ما يتّصل بالهزيمة: حجمُها كان موضع خلاف، وكذلك طبيعتها واقتراحات الخروج منها. البعض مثلاً اعتبروا أنّ السبب كامن في «إلحادنا» بينما ذهب غيرهم إلى أنّه كامن في «إيماننا». وهناك من رأى العطب في الاشتراكيّة الناصريّة والبعثيّة، ومَن رآه في أنّ تلك الاشتراكيّة لم تكن اشتراكيّة، بل «رأسماليّة دولة بيروقراطيّة». وإذ اختار نقّادٌ هجاء «ثقافتنا»، اختار غيرهم «أنظمتنا الديكتاتوريّة» أو «جيوشنا»... مع هذا، كان القاسم المشترك بين الجميع تقريباً إقرارهم بالهزيمة. حتّى الأنظمة العسكريّة التي تحايلت على معناها وأمعنت في إساءة تأويلها أقرّت بوقوعها.

اليوم ليس هناك أيّ إقرار كهذا. حتّى الذين يستخدمون تعابير من نوع «نكبة» و»مأساة» وصفاً لما يجري، نجدهم، بعد عبارة أو عبارتين، يتحدّثون عن نصر مبين يشير إليه صاروخ هبط على تلّ أبيب أو التحام مباشر أسقط قتلى إسرائيليّين.

وهذا ما قد يفيد في إبطاء تقدّم الغزاة، أو في رفع كلفة هذا التقدّم، لكنّه حصراً لا يغيّر وجهة عامّة تزدحم براهينها المؤلمة.

والموقف المذكور، في عدم اكتفائه بنفي الهزيمة وذهابه إلى الجزم بالنصر، يحضّ على سؤال يتجنّبه تواطؤ ثقافيّ شامل وبالغ الإضرار: متى يقول طرف ما إنّه انهزم؟ أو وفق صياغة أخرى: هل للهزيمة معيار تقاس عليه؟ عدد القتلى؟ حجم الدمار؟ تهديم المدن والقرى؟ احتلال الأرض؟ مدى التهجير والنزوح؟ المقوّمات الاقتصاديّة للصمود؟ قوّة الحلفاء الخارجيّين وضعفهم؟ مدى التماسك المجتمعيّ الذي يرتكز إليه المقاتلون؟ حياة القادة العسكريّين والسياسيّين وموتهم؟ الآلة التقنيّة الملازمة للحرب؟ خطوط الإمداد ومخازن الأسلحة ومصانع إنتاجها؟...

والحال أنّ اعتماد أيّ من هذه المعايير، أو اعتماد بعضها أو كلّها، يقولان فعلاً بأنّ قوى الحرب، في غزّة ولبنان، مُنيت بهزيمة ليس إعلانها «ترويجاً لهزيمة» و»إشاعة ليأس». فليس أسهل من توجيه التهم وإطلاق ألسنة التشهير لتعطيل النقاش وحجب الوقائع التي تروّج نفسها بنفسها. والراهن أنّ هدف المصارحة بالحقيقة ليس حبّ الحقيقة، ولا حتّى الرغبة في وقف الهزيمة عند الحدّ الذي بلغته. فقبل هذا وذاك، وهما بذاتهما هدفان فاضلان، هناك خطر احتلال الأرض، أكان في لبنان أو في غزّة، وتعقّد أشكال التخلّص من الاحتلال وتعاظم مصاعبه، وهناك طبعاً البشر الذين يدفعون أكلاف هذا الكتمان إطالةً لمعاناتهم موتاً وتجويعاً وتهجيراً وإفقاراً وذلاًّ. ويُفترض بمن هم حريصون على «أبناء شعبنا» أن يستوقفهم أمر كهذا، وأن يفعلوا ما يسعهم فعله لوقف معاناة استثنائيّة يُنزلها بهم جيش متوحّش لا يرحم وليس هناك من يردعه.

ما نُقصف به، في المقابل، لا ينمّ إلاّ عن انعدام حساسيّة مطلق حيال المدنيّين الذين يُحذفون كلّيّاً من حسابات الربح والخسارة، فيما يتّجه التركيز كلّه على النصر والصمود. وهذا ما لا يُستعان عليه بوقائع، بل بكليشيهات، بعضها دينيّ على شكل نصوص منزوعة من سياقها التاريخيّ، وبعضها من مخلّفات «التحرّر الوطنيّ» و»حرب الشعب طويلة الأمد».

هكذا يقال لنا مثلاً: «لستَ مهزوماً ما دمت تقاوم»، فيما التجربة الحيّة التي نعرفها تنفي مثل هذه الإطلاقيّة الخطابيّة والساذجة عن المفاهيم، بما فيها مفهوم المقاومة. ففي ظرف ما قد ينتهي الأمر بواحدنا مهزوماً بالضبط لأنّه يقاوم.

وهذا ما كانته، مثلاً لا حصراً، حال تشي غيفارا، إمبراطور المقاومين، في الكونغو وبوليفيا.

لقد جاء الانتقال من إعلان الهزائم إلى عدم إعلانها ليوازي الانتقال من ثقافة الدولة، على قصورها ونواقصها، إلى ثقافة الميليشيا. ذاك أنّ الدولة ليست مجرّد سلاح، بل هي أيضاً عدد من الوظائف والمؤسّسات والخدمات التي لا تضمحلّ في حال انهزام سلاحها. أمّا الميليشيا فتنهض تعريفاً على السلاح، فيما يكون سائر الأدوار التي قد تؤدّيها منوطاً بسلاحها ذاك وبالسيطرة التي يمكّنها منها.

وما يعنيه هذا أنّ إعلان الهزيمة، أي إعلان هزيمة السلاح، يعلن موت كلّ شيء آخر ومواجهة واقع مُرّ، هو سيولة الحياة الطبيعيّة، بلا سلاح. ولا بدّ أن يساور الميليشيات شعور عميق بالنقص مفاده أنّ «شرعية المقاومة» لا تعوّض وحدها فقدان كلّ شرعيّة في عالم طبيعيّ. وهكذا فإنّ ما يُقصد فعليّاً بعبارة كـ»ولّى زمن الهزائم» هو أنّ زمن الاعتراف بالهزائم ولّى، فلم يعد هناك ما يُعرف ويُوثّق أو يُجهر به ممّا يخالف قواعد العالم السرّيّ.

وفي ثقافة الميليشيا، وفي عالم تحرير الحرب من قوانينها ومن معرفتها سواء بسواء، يتضاءل الكون خلف الذات الميليشيويّة إلى مجد أو فناء. هكذا يمتلئ ذاك القاموس بـ»العار» و»الرجولة» و»الشرف» و»الكرامة» و»أنزلناهم إلى الملاجئ» و»فرضنا عليهم التعتيم»... وفيما البشر جثث مؤجّلة، يتبدّى إعلان الهزيمة إخلالاً لا يُحتمل بتلك المعايير. وهذا قبل أن يحلّ صمت قبورنا مُجلِّلاً قبور صمتنا.

arabstoday

GMT 01:09 2024 الأحد ,20 تشرين الأول / أكتوبر

إيران واستهداف دول الخليج

GMT 01:07 2024 الأحد ,20 تشرين الأول / أكتوبر

آثار المشير

GMT 01:03 2024 الأحد ,20 تشرين الأول / أكتوبر

قاليباف ولبنان «بالمشرمحي»!

GMT 00:58 2024 الأحد ,20 تشرين الأول / أكتوبر

أسئلة بعد مقتل السنوار

GMT 00:56 2024 الأحد ,20 تشرين الأول / أكتوبر

رَهائنُ غربتين

GMT 00:53 2024 الأحد ,20 تشرين الأول / أكتوبر

لا يمكن أن يكذبوا عليك؟

GMT 00:51 2024 الأحد ,20 تشرين الأول / أكتوبر

زوجة ستالين

GMT 00:48 2024 الأحد ,20 تشرين الأول / أكتوبر

انتقام أميرة!!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حين تكون الهزائم ولا تكون حين تكون الهزائم ولا تكون



النجمات يتألقن في فساتين سهرة ذات تصاميم ملهمة لموسم الخريف

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 20:19 2024 السبت ,19 تشرين الأول / أكتوبر

طرق تنسقيق الجلد في موسم الخريف على طريقة النجمات
 العرب اليوم - طرق تنسقيق الجلد في موسم الخريف على طريقة النجمات

GMT 04:46 2024 الجمعة ,18 تشرين الأول / أكتوبر

اختبار جديد بالليزر يكشف عن الخرف بمختلف أنواعه في ثوان

GMT 02:35 2024 السبت ,19 تشرين الأول / أكتوبر

هل انتصر نتنياهو؟ ستيفن والت يجيب: لا

GMT 13:30 2024 السبت ,19 تشرين الأول / أكتوبر

أطعمة ومشروبات يجب تجنبها لمرضى السرطان

GMT 00:41 2024 السبت ,19 تشرين الأول / أكتوبر

إسرائيل تعترض قذائف أطلقت من لبنان

GMT 06:46 2024 الجمعة ,18 تشرين الأول / أكتوبر

شيرين عبد الوهاب تردّ على جدل "صوت مصر"

GMT 17:01 2024 الجمعة ,18 تشرين الأول / أكتوبر

الفيفا يسمح للاعب فيردر بريمن بتمثيل منتخب الجزائر

GMT 10:41 2024 الخميس ,17 تشرين الأول / أكتوبر

الاتحاد الأوروبي يُخطط لإنشاء ممر اقتصادي مع دول الخليج

GMT 08:33 2024 الخميس ,17 تشرين الأول / أكتوبر

زلزال بقوة 2.9 درجة علي مقياس ريختر داخل الحدود العراقية
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab