طائر الكناري والمنجم الفرنسي المظلم

طائر الكناري والمنجم الفرنسي المظلم

طائر الكناري والمنجم الفرنسي المظلم

 العرب اليوم -

طائر الكناري والمنجم الفرنسي المظلم

بقلم - أمير طاهري

في المعتاد، وفي مثل هذا الوقت من العام، تتلالأ جادة الشانزليزيه في باريس بأجواء الاحتفالات وزينة أعياد الميلاد والمتسوقين السعداء الذين يبحثون عن الهدايا الفاخرة في اللحظات الأخيرة. وفي هذا الموسم، ورغم كل شيء، فإن ما اعتاد الفرنسيون التباهي بأنه أجمل شوارع العالم قاطبة، قد تحول إلى ما يشبه ساحة الحرب. والسبب وراء ذلك هو تلك الظاهرة الحديثة المسماة «السترات الصفراء»، وهي الحركة الاحتجاجية التي بدأت أول الأمر كاعتراض شعبي على زيادة أسعار المحروقات ثم سرعان ما تحولت إلى هجوم شامل على النظام السياسي الفرنسي الراهن بأسره.
وللوهلة الأولى قد يقول المرء: لقد كنا هناك، وشهدنا الأمر، وابتعنا القميص!
غير أن إشعال النيران في السيارات المتوقفة وصناديق القمامة التابعة للمدينة، وتحطيم النوافذ، ونهب المتاجر، هي من الأساليب القديمة المعروفة لحركات الاحتجاج الفرنسية كما شوهدت في غير مناسبة قبل الآن، كان آخرها في عامي 2003 و2005.
ومع ذلك، فإن الانتفاضة الحالية، التي تدخل أسبوعها الخامس، تختلف كثيراً عن الاحتجاجات المشهودة في ما سبق لعدد من الأسباب:
أولاً، أن حركة «السترات الصفراء» قد بدأت في المقاطعات الفرنسية وليست في العاصمة باريس، وهي حركة جديدة تماماً في حد ذاتها. ومنذ ظهور فرنسا كدولة قومية في القرن الرابع عشر الميلادي، كانت أحوالها السياسية كافة متمركزة حول العاصمة باريس. واندلعت الشرارة الأولى للثورة الفرنسية العظيمة في عام 1789 من العاصمة باريس، تماماً كما حدث في توابعها الصغيرة التي شهدها عام 1830، ثم عام 1848، وكانت «كومونة باريس أو الثورة الفرنسية الرابعة» لعام 1871، كما يشير اسمها، شأناً باريسياً خالصاً. وكانت الاحتجاجات التي تمخضت عنها «الجبهة الشعبية» في عام 1936 من أعمال النخب الباريسية كذلك. وأخيراً، تمركزت فعاليات «التمرد الفرنسي الكبير»، والمعروف إعلامياً باسم «ثورة مايو (أيار) 1968» في العاصمة باريس.
أما الاختلاف الثاني فهو، وعلى العكس من الحركات الثورية و- أو التمردية السابقة، فإن حركة «السترات الصفراء»، التي حشدت ما يقرب من 130 ألف ناشط في 11 مدينة فرنسية في جميع أرجاء البلاد، تملك قاعدة اجتماعية وسياسية صغيرة الشأن بصورة غير متوقعة لا تضاهي حجمها الكبير، وهي الحقيقة المخفية وراء ستار غامض من الطاقة العنفوانية المكرسة لخدمة أعمال العنف المدمِّرة. ونظراً إلى شخصية «الحركة» الإقليمية بالأساس، فإنها تذكِّر المرء بأحد التقاليد الفرنسية العتيقة المرتبطة بالثورات الريفية المعروفة تاريخياً باسم «الحركة الجاكية أو تمرد الفلاحين» الذي بدأ أول الأمر في عام 1380 في شمال شرقي البلاد ضد طبقة النبلاء من ملاك الأراضي، واتسم بتحول الفلاحين الفقراء عن أعمال الزراعة إلى النهب وقطع الطريق بغرض سرقة الأموال من البارونات الإقطاعيين.
وعلى غرار «الحركة الجاكية» القديمة، فإن حملة «السترات الصفراء» الراهنة باتت قادرة على إلحاق الأضرار الاقتصادية الفادحة بمؤسسات البلاد، غير أنها عاجزة تماماً، رغم ذلك، عن طرح رؤية بديلة وواقعية للمجتمع الفرنسي.
ويأتي الاختلاف الثالث في أن حركة «السترات الصفراء» تنخرط ضمن سياق مجتمعي يمكن من خلاله، وللمرة الأولى في التاريخ الفرنسي، اعتبار أغلبية المواطنين «مميزين» ولو من الناحية النسبية على أدنى تقدير.
إن الأمة الفرنسية، التي عاشت طيلة أربعة قرون من الزمان تتقاذفها الأيام من حرب إلى صراع ومن ثورة إلى تمرد، بما في ذلك حربان عالميتان كبيرتان والكثير من الصراعات الاستعمارية، ذاقت طعم السلام الحقيقي – غير المعهود سالفاً – لمدة ستة عقود فقط. وتعد فرنسا اليوم واحدة من أغنى دول العالم مع نظام الرعاية الاجتماعية الأكثر سخاء عن أي مكان آخر حول العالم. فهناك أقصر أسبوع عمل مقارنةً بأي دولة أخرى، وأطول العطلات السنوية، وأبكر سن للتقاعد، وبعض من أفضل المرافق التعليمية والرعاية الصحية في تاريخ البشرية. ويحظى الشعب الفرنسي اليوم بأفضل طعام، وأفضل إسكان، وأفضل ملابس، وأفضل ترفيه من أي وقت آخر مضى في تاريخ بلادهم العتيق. كما أنهم يحظون بأفضل صحة، ويعيشون لمدة 20 عاماً أطول مما كانت تفيد به الإحصاءات السابقة منذ بداية الجمهورية الفرنسية الخامسة.
ومن الجدير بالذكر في ذات السياق، أن فرنسا ربما تكون الدولة الوحيدة على مستوى العالم التي تضم عشرات المدن والبلدات الصغيرة التي تتمتع فعلياً بكل أنواع المرافق الحضرية الحديثة.
ومع ذلك، تعكس استطلاعات الرأي أن قرابة ثلثي الشعب الفرنسي تتملكهم مشاعر التعاطف إزاء دعوات حركة «السترات الصفراء». فما السبب الحقيقي وراء هذا الوضع المتناقض هناك؟
حاول بعض المحللين تفسير الأمور بالإشارة إلى تكنولوجيا المعلومات الحديثة. تمكنت حركة «السترات الصفراء» من تنظيم نفسها باستخدام الهواتف الذكية وعبر مختلف حسابات «فيسبوك» و«تويتر»، حسب ما قيل لنا. ولكن ما الفارق الذي تشكله هذه الحقيقة؟ إن الثورة الفرنسية العظيمة لعام 1789 كانت تغذّيها الكتيّبات المطبوعة يدوياً، تلك التي تقوم مقام المدونات والإشعارات الحديثة عبر شبكات «فيسبوك» الحالية. وفي عام 1968، كانت المنشورات واللافتات تُستخدم بدلاً من الكتيبات القديمة.
لكن، إنْ نحّينا اللصوص جانباً في تحليلنا للوضع الفرنسي الراهن، مع عصابات اليمين المتطرف مثل «الكتل السوداء»، وعصابات اليسار الفوضوية، و«المخربين» المحترفين، فإن الفعاليات التي شهدتها الأسابيع الخمسة الماضية قد نالت شرائح واسعة من المجتمع الفرنسي. وصار إيمانويل ماكرون من الأهداف المحددة في ذلك السياق فقط لأنه صودف أنه يرأس البلاد في هذه الفترة الراهنة. وإحدى المهام غير المكتوبة للرئيس الفرنسي في الجمهورية الخامسة هي أن يتحول إلى «وسادة ملاكمة» كي يتلقى الضربات السياسية من هنا وهناك. وماكرون نفسه يعد نتاجاً مباشراً لنفس الطاقة، وإن كان في نسختها غير العنيفة التي تمخضت عنها حركة «السترات الصفراء».
ويقدّر بعض المحللين الأمر بأن الانهيار الافتراضي لكل الأحزاب السياسية التقليدية في البلاد هو الدافع الحقيقي وراء انزلاق فرنسا نحو سياسات التمرد الشعبية. ومع ذلك، يشير محللون آخرون إلى تهاوي صلاحيات وسلطات الحكومة الوطنية في صياغة وتطبيق السياسات الفعالة. وإثر الإعاقات الواضحة من قبل شبكات السيادة المشتركة، ومن أبرزها الاتحاد الأوروبي، صارت هوامش المناورة المتاحة لدى الحكومات الوطنية أكثر محدودية في المجالات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والدفاعية، والشؤون الخارجية.
أما عن تفسيري غير التقليدي، وبالتأكيد غير العلمي، للمجريات الراهنة فهو أن الشعب الفرنسي، على غرار أقرانهم في البلدان الغنية الأخرى، قد ناله الكثير من الضجر والسأم لكثرة المتاح من الوقت بين أيديهم والقليل من الفعل والحركة والإثارة. فلقد وصل عشرات الآلاف من الأشخاص بالفعل إلى قمة جبل «إفرست»، ناهيكم بقمة جبل «مون بلون» الأقل ارتفاعاً حتى صارت المنطقة هناك مكتظة بالزائرين مثل شارع الشانزليزيه عشية أعياد الميلاد. وينطلق الآلاف منهم في سباقات القوارب حول العالم. كما ينشر الآلاف الآخرون آلاف الروايات وينتجون آلاف الأفلام. وكل منهم على يقين من حصوله على 15 دقيقة من الشهرة عبر شاشات التلفاز، أو على الأقل، عبر شبكات «فيسبوك» أو «تويتر» المختلفة.
وهناك نافذة أخرى يمكن استشراف حركة «السترات الصفراء» الفرنسية من خلالها، ألا وهي مَثل طائر الكناري «الأصفر» داخل منجم الفحم المظلم. إن الحركة تقول لنا إن هناك خطأ ما في فرنسا... دعُونا ننتظر لنعرف ما هو!

 

arabstoday

GMT 00:23 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

إسرائيل و«حزب الله».. سيناريو ما بعد التوغل

GMT 00:28 2024 الخميس ,13 حزيران / يونيو

مكاشفات غزة بين معسكرين

GMT 00:37 2024 الخميس ,16 أيار / مايو

التطبيع بعد القمة!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

طائر الكناري والمنجم الفرنسي المظلم طائر الكناري والمنجم الفرنسي المظلم



إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الفخامة والحداثة بأسلوب فريد

عمّان ـ العرب اليوم

GMT 07:58 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تحوّل جذري في إطلالات نجوى كرم يُلهب السوشيال ميديا
 العرب اليوم - تحوّل جذري في إطلالات نجوى كرم يُلهب السوشيال ميديا

GMT 07:25 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية راقية تجمع بين الطبيعة الساحرة وتجارب الرفاهية
 العرب اليوم - وجهات سياحية راقية تجمع بين الطبيعة الساحرة وتجارب الرفاهية

GMT 07:39 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

كيف تختار الأثاث المناسب لتحسين استغلال المساحات
 العرب اليوم - كيف تختار الأثاث المناسب لتحسين استغلال المساحات

GMT 13:15 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

بايدن يؤكد العمل على وقف حرب غزة وإقصاء حماس عن السلطة
 العرب اليوم - بايدن يؤكد العمل على وقف حرب غزة وإقصاء حماس عن السلطة

GMT 08:12 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

التغذية السليمة مفتاح صحة العين والوقاية من مشاكل الرؤية
 العرب اليوم - التغذية السليمة مفتاح صحة العين والوقاية من مشاكل الرؤية

GMT 12:55 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

دينا الشربيني ورانيا يوسف تستعدّان للقائهما الأول على المسرح
 العرب اليوم - دينا الشربيني ورانيا يوسف تستعدّان للقائهما الأول على المسرح

GMT 08:36 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته

GMT 02:40 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

القهوة والشاي الأسود تمنع امتصاص الحديد في الجسم

GMT 06:59 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

فلسطين و«شبّيح السيما»

GMT 07:22 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

دراسة تحذر من أن الأسبرين قد يزيد خطر الإصابة بالخرف

GMT 09:52 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

كفاءة الحكومة

GMT 06:45 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

لبنان يقترب من وقف النار

GMT 10:19 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

جهود هوكستين: إنقاذ لبنان أم تعويم «حزب الله»؟

GMT 16:54 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

روسيا تتعاون مع الحوثيين لتجنيد يمنيين للقتال في أوكرانيا

GMT 02:58 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

11 شهيدًا في غارات للاحتلال الإسرائيلي على محافظة غزة

GMT 06:56 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

فرصة إيرانية ــ عربية لنظام إقليمي جديد

GMT 19:23 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

ميادة الحناوي تحيي حفلتين في مملكة البحرين لأول مرة

GMT 03:09 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

عدوان جوي إسرائيلي يستهدف الحدود السورية اللبنانية

GMT 07:58 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

اندلاع حريق ضخم في موقع لتجارب إطلاق صواريخ فضائية في اليابان

GMT 07:53 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

ألمانيا تحاكم 4 أشخاص بزعم الانتماء لـ "حماس"

GMT 06:54 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

النموذج السعودي: ثقافة التحول والمواطنة

GMT 07:10 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

تحذير أممي من تفشي العنف الجنسي الممنهج ضد النساء في السودان
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab