بقلم - حنا صالح
بعد أسبوع من اليوم يتحول المجلس النيابي إلى هيئة ناخبة، يفترض أن تنتخب قبل الـ31 من أكتوبر (تشرين الأول) الرئيس الجديد للجمهورية، مكان الرئيس عون الذي تنتهي ولايته في هذا التاريخ. قانوناً تتوقف عجلة التشريع حتى إتمام عملية الانتخاب. لكن واقعياً لا يشي المناخ السياسي بأن الانتخاب ممكن خلال المهلة الدستورية، ويتم التسليم بهذا الاحتمال الذي بات من تقاليد التحالف الحاكم والمتحكم باللبنانيين.
خلاصة المواقف السياسية، تلتقي على حتمية التأجيل، ودخول لبنان مجدداً في شغور رئاسي. كل ما يطرح للرئاسة ويتداول به، يتجاهل أصحابه ما أصبح عليه لبنان، الذي تعرض لأكبر عملية احتيال ونهب امتدت ثلاثة عقود أفقرته وتسببت في إذلال أهله، وفق تقييم البنك الدولي. كما يتجاهلون عناوين طرحتها ثورة «17 تشرين» التي قدمت مطلب استعادة الدولة المخطوفة، لتُستعاد الجمهورية من خلال عودة العمل بالدستور، فيكون للبنان رئاسة إنقاذية محررة تشبه اللبنانيين، وتحمل همومهم وتعبر عن مصالحهم.
قبل أيام وصف النائب جبران باسيل فريقه بأنهم، «حراس الحقوق والجمهورية والرئاسة»! فمنذ متى، تحتاج الرئاسة إلى حرّاس؟ والمفترض أنها رمز الوحدة الوطنية وبوصلة المواطنين وعنوان حماية حقوقهم ومصالحهم! الأكيد لا يأتي هذا الطرح السريالي من فراغ، بل تقصّد صاحبه ملاقاة ما أعرب عنه عون من «أمل» للبنانيين بأن «يأتيهم رئيس يكمل مسيرته» (...) قافزاً فوق حقيقة أن عهده دخل بتاريخ الرئاسات كعهد الانهيار التاريخي، واحتضار المؤسسات والتنكر للمسؤولية، والإطاحة بالدستور، وإرسال اللبنانيين إلى الجحيم، وتغطية تغول «حزب الله»، الذي حول لبنان إلى قاعدة صواريخ للدفاع عن الجمهورية الإسلامية!
ولئن كان متعذراً التكهن بالخيارات النهائية التي يعمل عليها الفريق الرئاسي، فإن هاجس أصحاب الطروحات الدونكيشوتية الإيهام بعدم القدرة على تجاوز حيثيتهم، بعدما جاهر عون برفض تأليف حكومة، واعتزامه تطيير الاستحقاق الرئاسي بقوله: «آمل ألا يكون مصير الانتخابات الرئاسية مماثلاً لمصير تشكيل الحكومة الجديدة التي لم تتوافر لها المقومات والمعايير، لتكون فاعلة وقادرة على القيام بمسؤولياتها حاضراً ومستقبلاً...». فأرسلت تصريحات باسيل إشارة بالغة الدلالة على تمردٍ آتٍ، فيمتنع معه عون عن مغادرة القصر، والذريعة رفض تسليم صلاحيات الرئاسة إلى حكومة تصريف أعمال!
هنا يثور السؤال طارحاً نفسه، ما هي صلاحيات الرئيس المنتهية ولايته؟ وماذا بين يديه كي يسلمه؟ وهو سيكون رئيساً سابقاً عند انتصاف ليل 31 أكتوبر؟ وأين هو النص الدستوري الذي يشير إلى هذا الأمر؟ وأين السابقة التي اعتمدوا عليها؟ ولنفرض أنه أنجز انقلاب القصر، فوفق أي نص سيتعاطى مع الداخل والخارج؟ مع المؤسسات السياسية كما المؤسسات الأمنية؟ وأي صلات ستكون متاحة له وقد انتهت ولايته، ويقيناً يعلم علم اليقين أنه سيتعذر عليه الاتصال مع السفراء المعتمدين، اللهم إلا السوري والإيراني؟
لا يقارن دخول عون القصر الرئاسي في 31 أكتوبر 2016، مع احتلاله القصر عنوة أواخر عام 1988، يوم رأَّسه أمين الجميل حكومة عسكرية انتقالية، مهمتها المحورية إجراء انتخابات رئاسية، فمنع الانتخابات واحتل القصر وراح يساوم الخارج على الاعتراف برئاسته! فهل هناك من يعتقد أن الاستعدادات لتنظيم مسيرة أتباع باتجاه القصر، توفر الغطاء للخطوة الانقلابية فيتم تجاوز الدستور، والاعتراض الشعبي الكاسح؟! الأكيد أن هذا الفيلم المحروق كان مهزلة في عام 1989، وإعادته اليوم ستكون مأساة. إنه تهديد إضافي للكيان، وسيفاقم «هركلة» السلطة ويعمق الشلل في المؤسسات المدنية والعسكرية والأمنية!
يردد البعض: الرئاسة الآن أو استعدوا للأسوأ! واللافت أنه ما من جهة تطالب بتأليف حكومة في مرحلة مفصلية من تاريخ لبنان، تحدُّ من الأسوأ عبر قرارات ممكنة تحمي البلد وأهله وتكبح الانهيارات، لكنهم يتعاملون مع الوقت بترف. ميقاتي رئيس حكومة تصريف الأعمال ليس بوارد التأليف لأنه مرتاح للتصريف والتكليف وكرسي الرئاسة مطوبة له حتى إشعار آخر! فيما قرار عون - باسيل، منع التأليف، يخدم مخطط التمرد المزمع!
على العموم، ما كان لهذا المنحى أن يتبلور لولا «قبة باط» من «حزب الله» تمكنه لاحقاً من تهديد الآخرين: إما الموافقة على خياره للرئاسة أو الشغور! إنه الاستثمار في الخراب والجوع، بعدما أشغل التحالف المافياوي الناس بالبحث عن الرغيف والدواء، فيستمر مخطط الاقتلاع ونقل لبنان إلى محور الممانعة، فتتقدم الهيمنة الإيرانية عبر الدويلة، وتذكروا ما كان قد قاله نعيم قاسم: «اللي مش عاجبوا يفتش عن حلٍ آخر له»! لكن الانتخابات التي أفقدت «حزب الله» قدرته على الفرض، جعلته يراهن على استفحال أزمات الفراغ والشغور، لتقديم مرشح متوافق مع أجندته مغطى بقشور الوسطية، يضمن مصالح المتصارعين الرافضين المس بمصالحهم ومكاسبهم، ويربطون نفوذهم برئاسة دورها محدد بإدارة شكلية للأزمة!
في هذا التوقيت أعلن نواب الثورة عن اعتزامهم طرح مبادرة متكاملة «دستورية وقيمية تؤسس لحاضنة سياسية وشعبية تدفع باتجاه انتخاب رئيس يساهم في إطلاق مسارٍ إنقاذي للبلاد». حددوا موعداً لها في الأول من سبتمبر (أيلول)، والرهان حقيقي على حثّ الناس كي لا يكون هناك غياب شعبي عن استحقاق رئاسة الجمهورية. والرهان الأكبر أن تحمل هذه المبادرة، البرنامج الإنقاذي لاستعادة الجمهورية السيدة لتكون الرئاسة بوصلة، لانتشال لبنان واللبنانيين، وغطاء لعدالة مستقلة تسائل وتحاسب. هنا تقتضي الدقة أنه منذ نهاية الحرب الأهلية، استوطن الشغور في رئاسة الجمهورية، والتهديد الآن بخطر الشغور ابتزاز مردود. وعموماً كانت معايير اختيار الرؤساء نموذجاً عن تدني المستوى السياسي والمعرفي والقيمي، استندوا إلى قوة لاشرعية حمت ممارساتهم، فأداروا الظهر للناس وحقوقهم وضربوا بمكانة البلد ومصالحه عرض الحائط.
ولأنه يستحيل الرهان على صحوة ضمير لدى المتسلطين، فإن دروس السنوات الماضية حتى الانتخابات تؤكد أن المسار لتبديل المشهد على صعوبته ليس مستحيلاً. كما أن البناء ممكن على حضور اللبنانيين أول مرة في الثورة، والمرة الثانية في التصويت العقابي في الانتخابات النيابية. وتفعيل هذا المسار من مسؤولية القوى التشرينية، ولا ينبغي رميه على نواب الثورة وحدهم ودعوتهم لاجتراح العجائب.
ألف باء مسار التغيير يتطلب ميزان قوى يحمل البديل الذي يفترض المبادرة لإطلاق تنظيم، أو تنظيمات سياسية، أفقية تشاورية وتشاركية، نقيض أحزاب الشخص الشمولية الطائفية المهيمنة على المشهد السياسي. هذا المنحى عنصر رئيسي لبلورة تعاضد الموجوعين وكل الساعين لتحقيق التغيير ليلتقوا في إطار «الكتلة التاريخية» العابرة للمناطق والطوائف، التي تتسع لكلِّ الحيثيات الانتخابية والفاعليات والكفاءات إلى النقابات. والأكيد أن غياب هذه «الكتلة التاريخية» هو الذي مكن الناهبين القتلة من البقاء على كراسي الحكم!