بقلم - حنا صالح
ما حدث منذ السادس من الشهر الحالي، يوم تطايرت صواريخ الـ«كاتيوشا» و«الغراد» من الجنوب اللبناني نحو شمال إسرائيل... إلى رد تل أبيب بضربات مشابهة، فتساقطت القذائف على الجانبين، في «مناطق مفتوحة» خالية من الأهداف، بدا معه المشهد أنه أدنى من «معركة بين حربين»، ما دامت جهة الإمرة بإطلاق الصواريخ كما الحكومة الإسرائيلية على توافق ضمني على حدود التصعيد!
مع ذلك تخرج أبواق الممانعة لتؤكد على استمرار «معادلة الردع» مع العدو الغاشم (...)، في حين تلتزم تل أبيب الابتعاد عن المواجهة الإقليمية المفتوحة ما دام لا عائق أمام الضربات الإسرائيلية التي تستهدف مواقع إيرانية في سوريا! وما دام، وهو الأساس اليوم، أن حكومة التطرف والتعصب الديني، تراهن على الوقت لتكريس أولويات، أبرزها السعي لأن تفرض بالحديد والنار «سيادة» إسرائيلية على كل الأماكن المقدسة في فلسطين والقدس خصوصاً؛ تمهيداً لمشروعٍ خطير يقوم على فرض «تقاسم» ما على المسجد الأقصى بين اليهود والمسلمين، باعتبار الأقصى جزءاً لا يتجزأ مما يعتبره الصهاينة «جبل الهيكل» المزعوم!
ليكتمل المشهد، يبشر نعيم قاسم بأن «توازن الردع قائم وحاضر، والمجاهدون الفلسطينيون في الميدان، وكل محور المقاومة في يقظة»... ناسجاً على المنوال الذي اتبعه «حزب الله» الذي تبرأ من الصواريخ المجهولة المعلومة بزعمه أنه لم يكن يعلم! لكن، وهو الآمر الناهي في منطقة الجنوب، أن «لا يعلم» بنصب عشرات الصواريخ التي انطلقت على دفعتين، وأن يستنكف عن استنكار ما حصل الذي يعرّض لبنان لأثمانٍ لا طاقة له بها، فهذا يؤكد أنه «كان يعلم»، وأن كل ما جرى تم بتنسيقٍ على أعلى مستوى من طهران إلى الضاحية الجنوبية و«حماس»... لأنه مستحيل، من دون قرار من طهران، أن تشتعل الجبهة الجنوبية بشكل لا مثيل له منذ حرب يوليو (تموز) عام 2006 ويكتفي «الحزب» ببيان نفي مسؤوليته!
ولتأكيد المؤكد؛ عمّم «حزب الله» خبر اللقاء الذي جمع حسن نصر الله وإسماعيل هنية، وخلُصَ إلى تأكيد «جهوزية محور المقاومة وتعاون أطرافه» في مواجهة التطورات الإقليمية. هذا الإعلان تلى إفطاراً جمع إلى أركان «الحزب» مسؤولين كباراً في جماعة «أنصار الله» الحوثية اليمنية، و«الحشد الشعبي» في العراق، إلى عددٍ من الأمناء العامين والكوادر الفلسطينية تصدرهم إسماعيل هنية من «حماس» وزياد نخالة من «الجهاد الإسلامي»، وكان الطبق الرئيسي تنسيق خطوات محور الممانعة والمقاومة في المنطقة! وكشف اللقاء عن السعي الحثيث من جانب «حزب الله» لتوحيد الجبهات، لإنجاز ما وصف بـ«ترابط الساحات»، من غزة إلى الضفة ولبنان والعراق خدمة لحسابات إقليمية، ضارباً عرض الحائط بواقع أن دفع لبنان إلى هذا المنزلق الخطير لا يحظى بتأييد اللبنانيين ويفتقر إلى أي تغطية وطنية!
تزامنت كل هذه المعطيات التي تتالت منذ السادس من الحالي، مع الاجتماع السعودي - الإيراني في بكين الذي انعقد على مستوى وزيري خارجية البلدين، الأمير فيصل بن فرحان وحسين أمير عبداللهيان، الذي حمل تأكيدهما على ترسيخ ما «يعزز الثقة المتبادلة، ويوسع نطاق التعاون، ويسهم في تحقيق الأمن والاستقرار والازدهار في المنطقة»، وأتبع عبداللهيان البيان المشترك بإعلانه حِرص طهران على «الاستقرار والأمن المستدام والتنمية في المنطقة»!
الأمر الأكيد أن الاتفاق الإيراني - السعودي بشراكة مع الصين، مسار كبير الأهمية.
من جانب آخر، على الأرجح ستتجه سياسة طهران في هذه الآونة إلى التركيز على المسألة الفلسطينية، فتحفز أذرعها على استعادة المواقف «الانتصارية» التي تدعو إلى تدمير إسرائيل خلال 7 دقائق ونصف دقيقة، وتستند في دفع هذا النهج قدماً إلى الوحشية الإسرائيلية وانفلات تعديات قطعان المستوطنين الذين يقودهم الوزير بن غفير، الذين يضعون المسجد الأقصى كأول أهدافهم... كما أن طهران التي تأمل في استمرار الوتيرة المنخفضة في المواجهة، ترسم أدوار محورها، انطلاقاً مما تعتقده من ضعف في مركز القرار الصهيوني، تأسيساً على عمق الانقسام الداخلي غير المسبوق في إسرائيل، كما حالة الصدام في الأولويات بين واشنطن وتل أبيب!
بهذا السياق، يمكن التوقف عند أبعاد الإفطار الرمضاني في الضاحية الجنوبية، وما يتم رسمه من خطط للأذرع الإيرانية؛ الأمر الذي سيكون معه لبنان في عين العاصفة، مع الانتقال من مرحلة إطلاق صواريخ «لقيطة» تذكيرية بالصراع مع إسرائيل، إلى تكرار ما شهده الجنوب في السادس من الشهر الحالي، رغم المخاطر من انزلاقٍ خطير قد لا تسلم معه الجرة كل مرة!
وبانتظار ما سيعلنه نصر الله لمناسبة «جمعة القدس»، فإن ما جرى أعاد «حزب الله» عبره التأكيد أنه الجهة الممسكة بقرار السلم والحرب في لبنان. وعندما يعلن أن الجمهورية الإسلامية «لن تتخلى عن صاحبها»، يجنح إلى تثبيت الدور الإقليمي لـ«حزب الله» في ظل المتغيرات المتسارعة. وهو دور «سداه ولحمته» خدمة المصالح الإيرانية، وتأكيد إضافي بأنه جهة غير معنية بكل الانهيارات التي يعيشها لبنان وتضرب شعبه، رغم أن الأساس الذي عجّل وقوعها متأتٍ من سلبطته الكاملة على السلطة: رئاسة جمهورية ورئاسة برلمان ورئاسة حكومة، ورغم ذلك يدير الظهر لتداعيات الانهيارات. بهذا السياق لا يلتفت إلى الآثار الجانبية التي أطاحت بـ«الضمانات» التي تردد أن مرشحه للرئاسة سليمان فرنجية قدمها للفرنسيين! وفوق ذلك، وضع رئاسة الجمهورية ضمن أضيق نطاق، ليتبين عقم الصراع على رئاسة أُفرغت من دورها، وأن الدولة المخطوفة وأهلها ومعاناتهم ليسوا أكثر من تفصيل حيال أساس هو تأبيد الهيمنة الإيرانية!
لبنان اليوم معلق على مفترق طرقٍ خطير. مهدد بشيء من «اتفاق قاهرة» جديد، وبشيء من «حماس لاند»، نتيجة الخلل الوطني بموازين القوى، فالمفتقد هو الجهة الحقيقية التي تمثل اللبنانيين وتجسد أحلامهم وآمالهم. لذا؛ في كل ما نشهده يتبين أن المافيا السياسية المالية والمصرفية والميليشياوية غير منزعجة وغير مهتمة بتداعيات الأخطار والكوارث لأن مصالحهم تلتقي على خيار اللادولة!