بقلم - سام منسى
لعل الإشكال العالق بين واشنطن وموسكو على خلفية الأزمة الأوكرانية الروسية، أخطر وأهم تطور في العلاقات بين الدولتين، منذ أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، بين جون كيندي ونيكيتا خروشوف، والتي كادت تصل إلى مواجهة نووية بينهما.
هذا الخلاف ظهر واقعاً يختمر لدى الروس قيادة ونخباً سياسية؛ خصوصاً الشيوعيين والقوميين المتشددين منهم.
شاءت الظروف أن تمسك شخصية صعبة المراس مثل فلاديمير بوتين زمام الحكم، فعرفت كيف تدغدغ مشاعر هذه الشرائح من الشعب الروسي، والإفادة من أخطاء أداء الدول الغربية - وعلى رأسها الولايات المتحدة - تجاه روسيا وريثة الاتحاد السوفياتي، القطب الثاني والقوة العالمية الكبرى المنهارة.
تمكن بوتين من تجيير غطرسة الغرب واستعلائه تجاه بلاده، والتعامل معها كدولة ضعيفة اقتصادياً غير قادرة على دور الدولة العظمى، ولعب على المشاعر المكبوتة لدى الروس، بغية تعزيز قبضته في الداخل أولاً والتمدد في الخارج ثانياً. أعاد روسيا خلال العقدين الأخيرين إلى دولة محكومة بنظام متسلط، بدد آمال الناس بالديمقراطية والحريات الفردية وحقوق الإنسان وتداول السلطة سلمياً، وهو اليوم يزهو بما حققه في حنين ظاهر إلى الحقبة السوفياتية.
خارجياً، تماهت طريق بوتين مع نظام آخر في الصين، ما فتح الأبواب أمام علاقات دافئة إلى حارة أحياناً بينهما، على الرغم من تضارب مصالحهما وأهدافهما في أكثر من ملف. فما يجمعهما يفوق أهمية في تفكير الزعيمين الروسي والصيني ما يفرِّقهما، وأساسه مناهضة ما يعتبرانه هيمنة سياسية واقتصادية وأمنية وثقافية وأنماط عيش غربية - وبخاصة أميركية - عبر النظام العالمي السائد. والأشد خطراً بالنسبة لموسكو وبكين هي مبادئ الحداثة والديمقراطيات الغربية التي باتت تحاصرهما من كل صوب، ما سعَّر الخوف من انتقال العدوى إليهما، والانقضاض على نظاميهما.
الأزمة بين الغرب وروسيا كشفت الغطاء عن تغيير في العلاقات والتحالفات الدولية منذ سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991، وأظهرت شراكات جلية عبَّرت عنها مؤخراً زيارة بوتين إلى الصين بمناسبة الألعاب الأولمبية الشتوية، فنقلت إلى العالم أجمع - وخصوصاً للمقاطعين الغربيين - صورة غير مسبوقة للشراكة الروسية الصينية. أكد الرئيسان على روحية شراكة استراتيجية «ونموذج لعلاقات لائقة، يقوم فيها كل طرف بمساعدة الآخر ودعمه في تطوره». ولعل المقصود بالنموذج هو شكل ومضمون أنظمة حكم تشترك في أكثر من قاسم، وتتقاطع على رفض الأنماط الغربية، وتنفتح على كل الدول التي تشاركها الروحية والسلوك ذاتهما، وتقوِّض النظام العالمي المفروض من الغرب. ولا نبالغ إن وُصفت بأنها شراكة تحديث الاستبداد.
وما نقص في زيارة بوتين للصين اكتمل في الزيارة التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لموسكو؛ إذ أكدت عمق الخلافات مع الغرب. بغض النظر عن حظوظ نجاح الزيارة لجهة تخفيف التوتر والتوصل إلى تسوية ما، أو تحقيق بعض التقدم في هذا المسار، بيَّنت الفرز بين القوى العالمية، بحيث قلصت مساحة المواقف الرمادية في العلاقات الدولية، وجعلت الاصطفاف سيد الموقف. وأكثر ما يعبِّر عن ذلك هو موقف المستشار الألماني أولاف شولتز غير المتوقع، حين أكد أن «الدول الغربية متحدة ومستعدة لفرض عقوبات شديدة على روسيا، إذا قامت موسكو بمزيد من التوغلات في أوكرانيا». هذا الموقف المستجد يعني أن أوروبا لم تعد قادرة على الحياد، لشعورها بخطورة تداعيات حرب جديدة على أرضها، وتحسسها لأول مرة بعد الحرب العالمية الثانية معنى اجتياح دولة أراضي دولة أخرى أو احتلالها، وإدراكها خطورة ما تطالب به موسكو من عدم قبول انضمام دول جديدة إلى «الناتو» وعواقبه على حرية الدول في تحديد سياساتها. أما القول إن الغرب كان البادئ بحروبه على أفغانستان والعراق وغيرهما، فهو زعم يتغاضى بفجاجة عن فظاعة الاعتداء الإرهابي التاريخي على برجَي التجارة في نيويورك، والذي كان وراء الحربين اللتين شنتهما واشنطن على أفغانستان والعراق، هذا بمعزل عن صوابية الرد أو عدمها، وما نتج عنه من أخطار وتداعيات سلبية.
في المحصلة، يبقى أن ما تكشَّف جراء الأزمة الأوكرانية هو حصاد مر للسياسات الغربية بعامة والأميركية بخاصة، بدءاً من طريقة التعاطي مع موسكو بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وصولاً إلى سياسة القيادة من الخلف لصاحبها باراك أوباما، وما تلاها من انكفاء وتراجع أمام أزمات ونزاعات مصيرية في أكثر من منطقة، بحجة دونالد ترمب: «أميركا أولاً»، والرغبة في احتواء التمدد الصيني. ولن تسقط من لائحة الأخطاء سياسة أوروبا المترددة والخائفة، والمسكونة بهاجس إمدادات الطاقة ورفاهة شعوبها بمقاربات قصيرة النظر.
فهل سيحفِّز التوتر مع روسيا الغرب بعامة والولايات المتحدة بخاصة - لا سيما مع إدارة جو بايدن الديمقراطية التي لا تستسيغ أنظمة الحكم المستبدة - على مراجعة سياساتها العقيمة في أكثر من منطقة، بدءاً من تعزيز العلاقات بين ضفتي الأطلسي، وأهمية العلاقات المتينة مع الحلفاء الأوروبيين، إلى عدم التخلي عن حلفائها في الإقليم أمام التوغل الإيراني، ولجم اندفاعها لإبرام اتفاق نووي جديد مع طهران، ومواجهة التمدد الصيني الذي تعتبره واشنطن أولوية، علماً بأنها في الوقت نفسه تترك له الأبواب مشرعة؛ خصوصاً في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟ فأي مواجهة هذه، عندما تقدم واشنطن لموسكو وبكين المنطقتين على طبق من فضة؟
ولعل إسرائيل نفسها ستراجع أخطاءها بعد زوال المنطقة الرمادية؛ خصوصاً لجهة علاقاتها مع موسكو، فهي باتت تدرك أن الوجود الروسي في سوريا بما هو عليه اليوم، ولما قد يؤول إليه في المستقبل من توسع ليس في صالحها، وهي العارفة من دون أن تقر بأن العلاقة بين موسكو وطهران صاحبة النفوذ المتجذر في سوريا متينة، ولن تتهاوى كما يحلو للبعض أن يعتقد.
تغيرت طبيعة التهديد الروسي الذي انتقل من الدفاع إلى الموقف الهجومي. تحولت روسيا من دولة تسعى لتجنب مزيد من الانتكاسات إلى دولة تمتهن الابتزاز لتنال ما تريده بالتهديد والوعيد، من دون الحاجة إلى سياسة الإنكار أو حسن النيات، كما فعلت في القرم وسوريا. أدركت أن العدائية هي أفضل طريقة لتطويع الخصوم، وأنها عندما لا تتسبب في أزمة ما، فلا شيء يحفز الغرب للتعامل معها وفق شروطها. أوكرانيا هي التعبير الأول لهذه الثقة بالنفس الجديدة، ولن تكون الأخيرة إلا إذا ارتقت القوى الغربية إلى مستوى التحدي.
لم تعد الأزمة الراهنة تتعلق بأوكرانيا وحدها؛ بل بأمن أوروبا والعالم، وبطريقة روسيا في إدارة العلاقات الدولية، عبر التوازن العدائي والانقلاب على أسس النظام الدولي.
المتغيرات كثيرة وعميقة، وتداعياتها خطيرة غير محسوبة، وسواء أرادت واشنطن أم لا، فإن خطر المواجهة المباشرة مع روسيا أعلى الآن مما كان عليه في أي وقت منذ الحرب الباردة. فهل ستستمر في سياسة عدم خوض صراع مباشر مع موسكو، والتي يعود تاريخها إلى رفض الرئيس هاري ترومان عام 1948 كسر الحصار السوفياتي لبرلين الغربية بإرسال القوات الأميركية؟
اليوم هناك رصد عن كثب للاستجابة الأميركية للأزمة الأوكرانية، وحكومات تقيِّم استعداد واشنطن لدعم أصدقائها وشركائها ضد العدوان، وخصوصاً الصين فيما يتعلق بتايوان وإيران وطموحاتها في جوارها العربي. ولعل عنوان السنوات المقبلة هو مدى قدرة واشنطن وحلفائها على الاحتواء، أو حتى الردع المزدوج لموسكو وبكين، وإيران بينهما.