ما الذي يستدعي من المُفكّر الياباني الأصل، الأميركي الجنسية فرانسيس فوكاياما، هذا النقد الكبير والخطير لمبادرة الحزام والطريق الصينية، على النحو الذي ورد في مجلة الفورين آفيرز الشهيرة عدد سبتمبر /أكتوبر المنصرم؟
لا يحتاج الرجل إلى تعريف، فهو أشهر من نار على علم، ويُعَدّ إمامًا لليبراليّة المنفلتة إن قُدِّر لنا القول. والجميع يتذكّره برؤيته التي صادر فيها حركة التاريخ، عبر نظريّته عن نهايته والوصول إلى الإنسان الأعلى من خلال الرأسماليّة، قبل أن يعود ويراجع أفكاره.
يمكن القطع بأن فوكاياما قوّة فكريّة يمينيّة ضاربة، والصين تقع ضمن مرمى أهدافه، وبخاصّة مشروعها لبناء وتطوير أكبر بنية تحتيّة في تاريخ الإنسانيّة، وأكثر المشروعات طموحًا، والمعروف باسم "مبادرة الحزام والطريق"، تلك التي قامت على أنقاض طريق الحرير في القرن التاسع عشر، بهدف رَبْط الصين بالعالم.
يمكن للقارئ أن يشكّ أول الأمر في توجّهات فوكاياما لجهة الصين، سيّما أنّها تمثّل القطب القادم، والمنافس الشرس للولايات المتّحدة الأميركيّة في تسنم قمّة العالم، ولمن يذهب في هذا الاتّجاه ألف حقّ. غير أنّ فوكاياما يَعتبر المشروع أحد أسباب إغراق كثير من دول العالم في الديون، ويقطع بأنّ بكين تقود الكثيرين لإخفاق مُحقَّق، وبخاصّة بعد أن منحت قروضًا بنحو ألف مليار دولار لأكثر من مائة من دولها، وأوقعت غالبيّتها فيما يُسَمّيه "فخّ الديون" الذي تم التخطيط له بقصد أن يكون لها اليد الطولى على البلدان الأخرى، بل والاستيلاء على أبنيتها التحتيّة ومورادها.
هل اتّهامات فوكاياما لها حظٌّ من الصحة بحالٍ من الأحوال؟
قبل الجواب نُذَكِّر بأنّ الصراع على النفوذ القطبِيّ عادةً ما يستخدم آليّات اقتصادِيّة لإدراك أغراضه، وهناك قصة الأموال الصينيّة الساخنة التي تجد عادة طريقها إلى الدول النامية، بسهولة ويُسْر، على عكس قروض البنك والصندوق الدولِيَّيْن واللذَيْن يتطَلّبان شروطًا غير موصولة فقط بالقدرة على السداد، بل بمستويات حقوق الإنسان، وأحوال الديمقراطية، وبقية معطيات الليبرالية الغَنّاء.
الصين لا يهمّها سوى الحصول على المواد الخامّ، وتقديم الأموال السريعة، ولعل إفريقيا وبعض دول آسيا ميدانٌ واقعيّ لما نقول به.
خُذْ إليك على سبيل المثال بعد أن تخلّفَتْ سيرلانكا عن تسديد حِصّتها من مشروع "ميناء هامبونتوتا" عام 2017، حصلت الصين على إيجار لمدة 99 عامًا في إطار مفاوضة على الدَّيْن واتّفاقٍ جديد، الأمر الذي أثار قلق واشنطن وعواصم غربيّة أخرى، وعَرَّضَ بكين بالفعل للنقد بعيدًا عن فوكاياما.
هل كانت سيرلانكا نموذجًا وحيدًا فريدًا في هذا السياق أم أنّ هناك غيرها تواجه نفس المصير؟
الثابت أنّ ما جرى لسيرلانكا، حدث بالقدر نفسه لدول أخرى مثل الأرجنتين وكينيا وماليزيا، عطفًا على مونتيتغرو، وباكستان وتنزانيا.
لم تَعُدْ تلك الدول هي القلقة فقط من جَرّاء عدم قدرتها على تسديد ديونها للصين، بل صندوق النقد الدوليّ وغيره من الهيئات التي يُمَوِّلها الغرب، حيث باتت الملجأ والمهرب الأخير لطلب المعونة من قِبَل الدول المَدِينة لبكين ومن غير مقدرة في الأفق على السداد.
نقد فوكاياما في واقع الأمر ليس مُجَرَّدًا أو مؤدلَجًا، بل موثقًا بالمعلومات والأرقام سِيّما أنّ العديد من المشروعات الكبرى التي مَوَّلتْها الصين، وَلَّدتْ عوائد مُخَيِّبة ولم تنجحْ في توليد عوائد مُجزية، كما لم تدفع الاقتصادات الوطنيّة في طريق النموّ الاقتصاديّ.
ما حدث للكثير من المشروعات الصينية أنّها اصطدمت بالفعل بمعارضة جماعات محلية، تمّ تعريض مشروعاتها وأراضيها ومُقَوِّمات بل ومقدرات عيشها للضرر، ناهيك عن أجوائها البيئيّة التي تضرّرَت في الحال وباتت عُرْضة في الاستقبال للمزيد من المخاطر.
وبين هذا وذاك لا تفتح الصين البابَ واسعًا لمشاركة الأطراف المحلية لتوظيف عُمّالها ووكلائها عندما تشيد البنى التحتيّة، وإنما تعمد إلى تقديم وكلائها على نظرائهم المحلّيّين، ما يفيد بأنّ الأخيرين لا يغنمون إلا الفتات، فحتّى الخبرات لا يتحصلون عليها بحال من الأحوال.
بعيدًا عن فوكاياما ونقده يعنّ لنا التساؤل:"هل الصين تساهم في تفاقم أزمة الديون العالمِيّة، والتي تكاد تتسَبَّب في أزمة كبرى للاقتصاد العالميّ، ما لم توجد بدائل من خارج الصندوق، تحمي الدول النامية أول الأمر؟
المؤكد أنّ مواجهة الأزمات الناجمة عن الديون باتت مسألة تُؤَرِّق كبريات المُؤسّسات الماليّة الأممِيّة، والخوف من أن تكون آثارُها أشدَّ من خطورة الموجات السابقة، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ كلّ دولار يؤخذ ويصرف على سداد دَيْن ثقيل، وسواء كان هذا الدَّيْن مرتبطًا بمشروع مبادرة الحزام والطريق، أو غيره من المشروعات، هو دولار يُعَدّ خصمًا من الاستثمار الحقيقيّ في التنمية الاقتصاديّة، ومن النفقات الاجتماعيّة، ومن مكافحة التغيير المناخيّ.
لا ينفصل عالم الاقتصاد عن عالم السياسة بحالٍ من الأحوال، ما يدفعنا للتساؤل عن توجهات الصين بعد جائحة كوفيد – 19، والذي اعتبَرَهُ البعضُ فيروسًا صينيّ الأصل والمنشأ كما قال الرئيس الأميركيّ السابق دونالد ترامب، وهل تريد تعويض ما فاتها من فرص، واسترداد ما خسرته من موقع وموقع اقتصادي ريادي عالمي.
ممّا لا شكَّ فيه أنّ الصين خسرت الكثير من موثوقِيّتها ومصداقِيّتها، فقد كانت الهشاشة الحكومِيّة سببًا في انتشار الفيروس حول العالم، ومن غير أدنى مقدرة حتى الساعة على معرفة ما الذي جرى على وجه الدقة.
حكمًا كانت لبكين غايات متعدّدة من وراء مبادرة الحزام والطريق، تمَثَّلتْ أول الأمر في مساعدة الشركات الصينية، الحكوميّة والخاصّة على جَنْي الارباح من الخارج وتعويم قطاع البناء الضخم والمحافظة على وظائف ملايين العمال الصينِيّين.
أمّا على الجانب السياسيّ، فقد رَمَتْ لتعميق نفوذها السياسي والأمنيّ، وما تتطَلّع إليه من موانئ حول العالم دليل على ملامح رسمها لقطبِيّتها القادمة دون شكٍّ.
هل يعني ذلك أنّ مشروع الصين برُمّتِه خطرٌ كبيرٌ على المشاركين فيه؟
القطع بذلك يدخل في دائرة التهويل؛ ذلك أنّه حتّى ولو كانت هناك أخطاء قد جرتْ بها المقادير في طريق تنفيذ هذا المشروع العملاق، إلّا أنّ العقليّة الكونفوشيّة الصينيّة، قادرة دون أدنى شكٍّ على مراجعة أخطائها ضمن رؤية "الكل الأنطولوجيّ" الذي يسير فيه العالم، ومن دون اللجوء إلى النهج التصادمِيّ الأرسطِيّ الغربِيّ التقليدِيّ.
نقد فوكاياما ولو تضَمَّنَ بعض الحقائق، إلا أنّه ليس رؤية يوتوبيّة غربية، فما فَعَله الصندوق والبنك الدوليَّان بالكثير من دول العالم أشَدُّ ضراوةً وأبلغ اثرًا سلبيًّا ممّا جَرَى من قِبَل الصين.