إن دلّت على شيء المواكبةُ الإعلامية الدولية الكثيفة التي حظيت بها زيارة ملك الأردن عبد الله الثاني، إلى واشنطن، فهي تدل على دوره في الدبلوماسية الإقليمية، لا سيما من بوابة السؤال الفلسطيني. فاللقاء الأول بين الرئيس الأميركي، دونالد ترمب في ولايته الجديدة، والملك عبد الله، عكس بوضوح لا لبس فيه أهمية الأردن في السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط عموماً، وفي هذا التوقيت خصوصاً، مع ما يتطلبه هذا التحالف من موازنة صعبة تمارسها عَمّان بين موجبات العلاقات القوية بين البلدين، وأولوية المصالح الوطنية الأردنية.
المطلعون على موقف الملك عبد الله يؤكدون أنه يجيد التعامل مع «الفَوَران التِّرَمْبِيّ»، فهو يرى أن سلوك ترمب ليس نابعاً من موقف سلبي مسبق تجاه المصالح العربية، بقدر ما هو مدفوع بأسلوب الرجل وطريقته في التعبير عن حيوية فائقة مقرونة بافتقار حاد إلى أفكار سياسية مركبة ومعقدة. لذلك حرص الأردن على أن يرفض بحزم أي مقترح لتهجير الفلسطينيين من غزة، بالتوازي مع تجنب أي صدام علني مع الإدارة الأميركية.
ينطلق الأردن، في رفضه القاطع مقترحات إعادة توطين الفلسطينيين خارج غزة، من رفضه أولاً وأخيراً أي خطة من شأنها تهديد استقراره أو هويته الوطنية. لكنه يربط هذه المصلحة بمصالح أوسع، هي مصالح الفلسطينيين والعرب جميعاً، بالإضافة إلى مصلحة إسرائيل نفسها التي ستكون أول المتضررين من اضطراب أمن واستقرار دولة تشترك معها في أطول حدود.
وخلافاً لمحاولات مغرضة أرادت تظهيره على أنه مجرد متلقٍّ للضغوط السياسية، أثبت الأردن بالفعل أنه مهم في الدبلوماسية الإقليمية، وطرف فاعل في صياغة حلول سياسية إقليمية قابلة للحياة، عبر قدرته على التنسيق الوثيق مع عواصم عربية أخرى، لا سيما الرياض والقاهرة وأبوظبي.
تتضح جرأة الملك عبد الله أكثر إذا ما تذكرنا أن الأردن يُعدّ من كبرى الدول المستفيدة من المساعدات الأميركية، فهو يحصل على نحو 1.45 مليار دولار سنوياً بموجب اتفاقية تمتد حتى عام 2029، في حين وافق الكونغرس على زيادة المساعدات لعام 2025 إلى 2.1 مليار دولار، وهو أعلى مستوى سنوي على الإطلاق. مع ذلك، وعلى الرغم من الدور الرئيسي الذي تلعبه هذه المساعدات في دعم استقرار الاقتصاد الأردني، والتلميحات الأميركية إلى استخدام المساعدات وسيلة ضغط عليه، فإن الأردن لم ينصع لأي إملاءات سياسية تمسّ القضايا الوطنية والسياسية الحساسة.
طبعاً هناك من يركّز على المساعدات، ويتجاهل عمداً «اتفاقية التجارة الحرة» بين المملكة الهاشمية والولايات المتحدة، التي دخلت حيز التنفيذ منذ عام 2001، وأهمية أن يظل الأردن وجهة استثمارية مستقرة نسبياً في منطقة تعاني من الاضطرابات. كما يتجاهلون أن الأردن يمثل أحد أهم الشركاء الأمنيين للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وينفذ عمليات أمنية واستخباراتية مشتركة لمكافحة الإرهاب وضمان الأمن الإقليمي؛ مما جعله متلقياً لمساعدات وصلت على مدى العقود الماضية إلى أكثر من 30 مليار دولار.
يتصرف الأردن بثقةِ مَن تجاوز امتحانات كثيرة في عهد الملك عبد الله الثاني منذ عام 1999؛ من الانتفاضة الثانية عام 2000، إلى تداعيات «هجمات 11 سبتمبر (أيلول)» في 2001، إلى اجتياح العراق سنة 2003، إلى تمدد الإرهاب نحو الأردن عام 2005، وحرب إسرائيل مع «حزب الله» في 2006، مروراً بالأزمة الاقتصادية العالمية سنة 2008، بالإضافة إلى سنوات «الربيع العربي» الخطرة؛ بدءاً من 2010، وتدفق اللاجئين السوريين، وليس انتهاءً بسنوات التغوّل الإيراني على المنطقة خلال ولاية بايدن!
صنعت هذه التجارب الخبرة السياسية لعمّان، والأهم أنها صقلت الهوية الثقافية والوطنية في الأردن، وجعلت منه دولة متماسكة اجتماعياً، رغم التحديات الداخلية الكبيرة والضغوط الإقليمية والدولية الأكبر منها.
باسم هذه الهوية، تحدث الملك عبد الله الثاني قبل أيام مع مجموعة من المتقاعدين العسكريين، في عمّان، بعد زيارته واشنطن، معبراً بشكل غير مسبوق في لهجة العرش الهاشمي، عن استيائه من الجهات التي تتلقى الأوامر من الخارج.
العارفون بالشيفرة الأردنية يقولون إن هذا الكلام يعكس ارتياح الملك إلى قدرته على إدارة المرحلة الدقيقة التي تمر بها علاقة بلاده بواشنطن، مطمئناً إلى إدراك الدولة الأميركية العميقة موقع الأردن بصفته وسيطاً دبلوماسياً في الشرق الأوسط، وأنه مهم لأمن الإقليم، كما ظهر في لقاءات الملك مع قادة الكونغرس من الحزبين الجمهوري والديمقراطي.
إذا ما تجاوزنا فقاعات التصريحات الأميركية، فإنه يتضح أن قدرة الأردن على تجاوز مطبات العلاقة الحالية بواشنطن أعلى بكثير مما يُهَوَّل به في الإعلام؛ إما لإحراج قيادة المملكة الهاشمية، وإما لرفع مستوى التوتر في الشارع الأردني من قِبل أصحاب الأجندات نفسها التي خاطبها الملك. تدرك واشنطن، كما تُبيّن تراجعات ترمب الأخيرة، أن الأردن حليف استراتيجي، وأن أي زعزعة لاستقراره قد تؤدي إلى تداعيات كارثية على المنطقة.
زيارة واشنطن، وما تلاها، كانت مناسبة للتأكيد على أن دول التعقّل ليست لُقمة سائغة للقوى الدولية، وأن حساباتها الوطنية ستكون الأساس في بلورة أي حلول بالشرق الأوسط.