تدل الملامح الجيوسياسية على متغيرات جذرية في السياسة الدولية تختلف عما كان سائداً عند نهاية الحرب العالمية الثانية. ومن المتوقع أن تترك الملامح الجيوسياسية الجديدة هذه بصماتها على الصناعة البترولية.
هناك ملامح جديدة عدة يمكن تحديدها، من المحتمل جداً أن تتزايد وتتغير مع نهاية عام 2025. فهناك الاختلاف الواسع ما بين الولايات المتحدة وأوروبا حول سياسات عدة، منها: الخلافات حول «القيم» - كما عبَّر عنها نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس في خطبه الأخيرة في أوروبا، بالذات «الديمقراطية» التي شكَّلت القاسم المشترك ما بين دول الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، التي ادَّعى نائب الرئيس فانس غيابها في أوروبا حالياً.
ثانياً: إعادة النظر في العلاقات الأميركية - الروسية. تضعضع حلف «الناتو». الحرب الجمركية التي يشنّها الرئيس ترمب على الصعيد العالمي. التهديدات الأميركية لضم كندا وغرينلاند، وغزة. المحاولات الأميركية لكبح تصاعد نفوذ الصين الاقتصادي والعلمي عالمياً لتحتل المركز الأول. التساؤلات التي بدأت تتداول حول مستقبل العلاقات الصينية - الروسية في ظل المتغيرات الدولية أعلاه.
من المتوقع أن تكون الضحية الأولى لهذه المتغيرات الجيوسياسية السياسات المناخية والبيئية الناتجة من اتفاقية باريس 2015 لمكافحة تغير المناخ (مؤتمرات كوب)، حيث بادرت الأقطار الأوروبية إلى تبني الطاقات المستدامة على حساب الطاقة الهيدروكربونية، مقابل سياسات الرئيس ترمب في الانسحاب من اتفاقية باريس 2015 أثناء عهده الرئاسي الأول ومحاولة تهميشه دور الطاقات المستدامة حالياً.
وهناك احتمال نشوب منافسة شديدة بين روسيا والولايات المتحدة لتصدير الغاز إلى أوروبا.
لقد هيمنت الصادرات الغازية الروسية من حقول غرب سيبريا على الأسواق الأوروبية خلال العقود الثلاثة الماضية إثر الاتفاقيات الغازية الطويلة المدى التي وقعت بين الاتحاد السوفياتي سابقاً والأقطار الأوروبية، بحيث شكلت الصادرات الغازية الروسية نحو 35 في المائة من إمدادات الغاز لأوروبا في عام 2021، قبيل الغزو الروسي. عارضت الولايات المتحدة بشدة وباستمرار هذه الاتفاقيات منذ عقد الثمانينات. لكنها واجهت إصراراً أوروبياً في زيادة الاعتماد على الغاز. لم تكن هناك وسيلة لواشنطن لمنافسة أوروبا في حينه، إلا أن الصورة بدأت تتغير منذ منتصف العقد الماضي، مع الاكتشافات الضخمة لحقول الغاز الصخري، التي زودت الولايات المتحدة بالإمكانية لتلبية الطلب الداخلي للغاز بالإضافة إلى تصديره.
لكن التصدير الأميركي تطلب تشييد المصانع، والمواني، والناقلات لتصدير الغاز المسال، التي أصبحت جاهزة تقريباً للولايات المتحدة، مع التخطيط من قِبل شركات الغاز المسال الأميركية، على تشييد منشآت وموانٍ إضافية، لتلبية احتمال زيادة الطلب. إذ إن الصادرات الغازية المسالة الأميركية تزوّد أسواق شرق آسيا، ومنها الصين.
ستجد أوروبا نفسها مستقبلاً في موقف لا تُحسد عليه، بين إمكانية الاستيراد من واشنطن وموسكو، حيث الإمدادات متوافرة، لكن الأسعار مختلفة. إذ إن أسعار الغاز المسال أعلى من أسعار الغاز المصدر عبر الأنابيب. وطبعاً، هناك العلاقات الجيوسياسية المستقبلية مع الطرفين. هذا، مع العلم أن سوق الغاز الأوروبي من الأسواق الغازية المهمة عالمياً.
وعلى رغم إمكانية تحول السياسة الأميركية تجاه أوروبا بإدارة رئيس جمهورية منتخب آخر، يتوقع استمرار اهتمام الولايات المتحدة بالسوق الغازية الأوروبية، والعكس صحيح. فالسوق اقتصادياً ضخمة. من ثم، يُتوقَّع تنافس قوي بين الشركات الأميركية والروسية. كما يُتوقَّع قرارات صعبة سيتوجب على الأقطار الأوروبية اتخاذها. وسوق الغاز، كما هو معروف، لا تتوفر فيها المرونة المتواجدة نفسها في سوق النفط الخام، وبالذات عندما يكون الخيار استيراد الغاز عبر الأنابيب، أو عبر صناعة ومنشآت الغاز المسال. وما يزيد الأمور تعقيداً، هو العقود الطويلة المدى للغاز (نحو ربع قرن).
وهيمنت الصادرات الغازية الروسية على الأسواق الأوروبية على مدى نصف قرن تقريباً. أما الولايات المتحدة، فقد بدأت تشيد مصانع وناقلات الغاز المسال الضخمة للتصدير إلى أوروبا بعد الاكتشافات الضخمة للغاز الصخري في منتصف العقد الماضي 2014 – 2015، ولا تزال الشركات الأميركية تشيد منشآت غازية جديدة.
يشكل قطاع تصدير الغاز بين الدولتين الكبيرتين مجالات جديدة للمنافسة: تبلغ عادة أسعار الغاز المسال أكثر تكلفة وسعراً للغاز الطبيعي المصدر عبر الأنابيب. وبالذات في الوقت الذي شيدت روسيا فيه الغالبية العظمى من أنابيبها لأوروبا منذ عقد الثمانينات. فسيبقى هناك السؤال مستقبلاً عند إطار السوق الأوروبية المشتركة: هل ستستمر مقاطعة الغاز المسال الروسي رغم منافسته السعرية مع الغاز الأميركي؟ والمهم أيضاً في هذا المجال، هل ستعود أوروبا لاستيراد الغاز الروسي بعد مقاطعته أثناء حرب أوكرانيا، أم ستغض النظر عن ذلك وتستورد الغاز المسال الأميركي الأغلى سعراً، ورغم توتر العلاقات الأوروبية - الأميركية مؤخراً.
وإلى جانب العوامل الجيوستراتيجية التي تصدرت الأحداث الدولية خلال الشهر الأول من رئاسة ترمب، هناك أيضاً المؤشرات التالية: الاحتمالات العالية لهيمنة الأحزاب اليمينية على السياسات الأوروبية.
وهذه الأحزاب تتبنى مواقف قريبة من سياسات الرئيس ترمب. ففي مجال الطاقة، الهدف المشترك وضع سقف لاستعمال الطاقات المستدامة، لأسباب مختلفة بين الطرفين. فهدف ترمب هو «أميركا أولاً» أو الدفاع عن المصالح الاقتصادية الأميركية. أما هدف الأحزاب الأوروبية فهو مساندة المزارعين ضد المستوردات الزراعية من دول أميركا اللاتينية أو غيرها التي لا تنفّذ المعايير التي تفرضها السوق الأوروبية على مزارعيها.
كما طالب الرئيس ترمب في كلمته المتلفزة لمؤتمر دافوس الأخير مجموعة «أوبك بلس» بتخفيض الأسعار. ويأتي هذا الطلب مكملاً لسياسته زيادة الحفر والإنتاج في الولايات المتحدة. إلا أن معظم الحفر الجديد سيكون في مناطق «المحميات الفيدرالية» أو المياه البحرية التي كان من الممنوع سابقاً الحفر فيها لأسباب بيئية. من ثم، فإن الحفر الجديد في هذه المناطق وتشييد البنى التحتية من أنابيب وخزانات ومكائن الضخ، سيأخذان وقتاً طويلاً لتشييدها قبل أن يصل النفط الجديد إلى الأسواق. وبحسب مركز الأبحاث النرويجي «رايستاد»، فإن تكلفة الحفر الجديد للنفوط قد ارتفعت خلال الأشهر الماضية في الدول خارج مجموعة «أوبك بلس» إلى نحو 46 دولاراً لنفط برنت؛ الأمر الذي يجعل نفوط مجموعة «أوبك بلس» ذات الطاقات الانتاجية الكامنة العالية في موقف تنافسي قوي.