بقلم - فـــؤاد مطـــر
فلاديمير بوتين ورجب طيِّب إردوغان كلاهما من النسيج الذي هو عليه المرشد الإيراني علي خامنئي وإن تنوعت العقيدة السياسية لكل من الثلاثة، وكلاهما كما المرشد وريث المشروع الثوري من غواة التحرش بآخرين والتسبب في جعل هذه الدولة المتحرَّش بها أو تلك مهتمة بتقديم معالجة الهموم الناشئة عن التحرش على أولويات في مجال التنمية والتطوير، وأحياناً على حساب مشاريع في هذا الإطار. وكل من الثلاثة يتطلع في زمن انحسار متدرج لظاهرة الدولة العظمى وللهوس الإمبراطوري والجنوح نحو الحرب التي تبدأ باردة وتتطور سخونة، إلى إحياء مجد إمبراطوري استناداً إلى رؤى قديمة جرفتها تطورات ومفاهيم أزمات لاحقة، وعلى نحو ما زرعه بنيامين نتنياهو الملاحَق قضائياً في الوطن الذي استلبه جيل الأربعينات من الصهاينة في عقل دونالد ترمب رئيس الولايات المتحدة التي كانت ذات حقبة من العصور الماضية أرضاً للهنود الحمر، شأنهم شأن الأجداد من أجداد وعشائر أبو عمار وأبو مازن وجورج حبش ونايف حواتمة أصحاب فلسطين الأرض الموثقة بخرائط بعثرها البريطاني بلفور، وها هو الأميركي المنتشي والمحاط بمستشارين ليكوديي الهوى لا يكتفي بإضافة المزيد من البعثرة، وإنما يقلب الطاولة التي خلت كراسيها من الطرف صاحب الحق ومن الحليف الذي ينصح بما يهدي إلى سواء السبيل، شر قلْب على القضية برمتها، وكأنما هي إحدى مقتنياته الانتخابية.
الهاجس الإمبراطوري لدى مثلث التحرش بآخرين جعل كلا منهم يتجاوز الأحوال الراهنة في مجتمعاتهم، وكيف أن لا تنمية على نحو ما هو مطلوب ولا طمأنينة للناس التي هي حق المحكوم على الحاكم. بل وأكثر من ذلك هنالك حرمان وفقر، ورغم ذلك فإن كلاً منهم لا يخطط لما يقلص هموم الناس وإنما كيف يملأ ثغرات في هاجسه الإمبراطوري وإحداها موضوع زيادة السكان، إذ كيف تكون هنالك الطبعة الخمينية - الخامنئية - السليمانية للإمبراطورية الفارسية إذا كان لن يصل عدد السكان إلى 150 مليوناً، ومن أجْل ذلك صدرت الأوامر تحرض الإيرانيين على التناسل. هذا في إيران كما الأمر نفسه بالنسبة إلى إردوغان المتطلع إلى إرواء شجرة الإمبراطورية العثمانية إنما بطبعة دينية هو الآخر، وهذا يكون بالتحرش بمصر الأزهر وجوارها ليبيا الثروة النفطية، وتغطية هذا الفعل بالغيرة على القدس التي ذاقت مر الإهانة في سنوات العلاقة المتقدمة والعميقة في معظم السنوات الأتاتوركية مع إسرائيل، كما الأكثر مرارة في سنوات العلاقة الإيرانية الشاهانية المماثلة مع مغتصبي فلسطين ثم واضعي اليد على المقدسات فيها. والتطلعات الإردوغانية لإنجاز الطبعة المحلومة بنكهة إخوانية للإمبراطورية العثمانية تتطلب أن تكون تركيا سكاناً أكثر من رقمها الحالي الذي هو ثلاثة وثمانون مليوناً، فيما مصر تجاوزت المائة مليون، وفيما باكستان وإندونيسيا (الحصنان السُّنيان) معا قد تجاوزتا النصف مليار نسمة. ومن أجْل هذا التطلع في وقت يعاني من كبوات داخلية ونكسات انتخابية وارتباكات في العلاقات الدولية، ما زال يرى ما سبق أن أفاض من الكلام حوله لجهة عدد السكان قبْل ست سنوات يوم كان في عز زعامته تركيا، وذلك عندما اغتنم يوم الأحد 21 ديسمبر (كانون الأول) 2014 مناسبة زفاف نجل أحد رجال الأعمال من المقرَّبين إليه فقال مخاطبا العريس والعروس وبصوت عال لكي يَسمع الحاضرون من المتزوجين وكذلك الذين - واللواتي على أهبة الزواج إن «استخدام وسائل منْع الحمْل هو خيانة لطموح تركيا بأن تصبح دولة مزدهرة يشكِّل الشباب جزءاً كبيراً من سكانها. طفل واحد أو اثنان ليس كافياً. كي نجعل أمتنا أقوى، نحتاج إلى جيل شباب أكثر ديناميكية وشباباً. نحتاج إلى هذا لنرفع تركيا فوق مستوى الحضارات المعاصرة. في هذا البلد، إنهم (المعارضين) ضالعون في الخيانة المتمثلة في ترويج استخدام وسائل منْع الحمْل لسنوات من أجْل القضاء على أجيالنا. الزواج هو رحلة طويلة. بعض الأيام جيدة وبعضها سيئ. والأيام الجيدة تصير أكثر تكراراً بالمشاركة، والأيام السيئة تجلب السعادة في النهاية إذا تحليْنا بالصبر. إنجاب طفل واحد يعني الوحدة، وإنجاب طفليْن يعني التنافس، أما ثلاثة فيعني التوازن وأربعة يعني الرخاء. والله يهتم بالباقي...».
ويبقى الثالث الحالم بإحياء الإمبراطورية بنكهة قيصرية فلاديمير بوتين المسكون حديثاً بالمسألة السكانية، وأفصح حولها يوم الأربعاء 15 يناير (كانون الثاني) 2020 تزامناً مع إجراء ترتيبات في السلطة تُمكِّنه من أن يبقى في الكرملين سيداً له دون تحديد فترة زمنية. فقد فاجأ بوتين الشعب الروسي والغير بالمسألة السكانية كقضية استراتيجية على وقْع الاجتياحات الروسية من طهران إلى سوريا، مروراً لم يكتمل بالسودان وعيوناً شاخصة على ليبيا وإرفاق الحراك السياسي بإرسال المستشارين و/ أو الخدمات الحربية عدا إقامة قواعد جرى إنشاؤها على أنها لأمد طويل، وليست على نحو ما كانت عليه في مصر عبد الناصر الذي طلبها والسادات الذي ورثها ثم أنهاها. ومما قاله في هذا الشأن وبنوع من التناغم مع حيثيات اللذيْن سبقاه المرشد خامنئي والرئيس إردوغان، في كلمة ألقاها أمام البرلمان الروسي «عددنا اليوم 147 مليون نسمة (ثلث عدد سكان الولايات المتحدة وعشرة في المائة من عدد سكان كل من الصين والهند)، لكننا دخلْنا في فترة سيئة ديموغرافياً. إن التقديرات السيئة الحالية لا يمكن إلاّ أن تثير قلقنا، فمصير روسيا وتطلعاتها التاريخية يعتمد على ما سيصبح عليه عددنا في المستقبل، لذا أدعو إلى الخروج من الفخ الديموغرافي وعلينا أن ندعم الشباب كي يبدأوا حياتهم العائلية ويحلموا بإنجاب الأولاد...». ولهذا الغرض الاستراتيجي لمن ينشُد مجداً إمبراطورياً ويتطلب الأمر وطناً كثيفاً سكانياً، تقدَّم باقتراح وليس كأوامر على نحو ما فعل المرشد خامنئي، ومقدمة أوامر على نحو ما أشار إليه إردوغان، يضفي المزيد من الدعم لبرنامج «رأسمال الأمومة» وبما يشجع الزوجين على عدم الاكتفاء بمولود واحد، آملاً أن يصل عدد المواليد في العام 2024 إلى نحو مليونين.
لم يُخفِ بوتين الغرض الحقيقي من دعوته إلى التشجيع على الإنجاب، حيث اختصرها بعبارة «مصير روسيا وتطلعاتها التاريخية». وإذا كان المرشد لم يقلها صراحة بأنه يرى ضرورة لكثافة شيعية في إيران وسائر المجتمعات الشيعية في العالم العربي، وحيث هنالك شيعة في بعض دول العالم، فهذا لا يعني أنه لا يرى أيضاً كما إردوغان «التطلعات التاريخية» لبلديْهما. وقد تكون هذه التطلعات عبارة عن تمدد غير مرغوب فيه وإقامة قواعد وإرسال قوات. ومِثل هذا الغرض غير النبيل يتطلب استيلاد مواليد جدد إلى جانب المرتزقة من كل صوب أو ربما يكون بديلاً عنهم، فضلاً عن أنه بالكثافة السكانية يبدأ حل عقدة الجنوح الإمبراطوري.