بقلم:عثمان ميرغني
حتى الديمقراطيات الراسخة يمكن أن تمر بفترات تتعرض فيها لهزات واختبارات تجعلك تشك، ولو لوهلة، في متانتها. أميركا مرت بمثل هذه التجربة مع الرئيس السابق دونالد ترمب الذي ختم فترته الرئاسية بالتشكيك في الديمقراطية الأميركية برمتها، وبتهيئة الأجواء لاقتحام الكونغرس في محاولة صريحة من أعوانه لتنفيذ انقلاب على النظام الديمقراطي.
بريطانيا، وهي ديمقراطية أعرق من أميركا بكثير، تمر كذلك باختبار ديمقراطي مع رئيس وزرائها «المُقال» بوريس جونسون الذي لا يريد مغادرة المنصب، وما يزال يقول لأصدقائه إنه لا يريد الاستقالة وسيبقى إذا دعمته قواعد حزب المحافظين، بل وعلى استعداد لأن يفعل أي شيء يمكّنه من البقاء رئيساً للوزراء. بمعنى آخر فهو يحاول تحريض أنصاره للتمرد والضغط على قيادات ونواب حزبه المحافظين في البرلمان للعدول عن قرار إجباره على الاستقالة، وفرض استمراره في موقعه.
جونسون مثل ترمب شخصية شعبوية مغرمة بالسلطة، والشعبوية في تقديري من أكبر مهددات الديمقراطية. فالقيادات الشعبوية لا تأبه في العادة بحكم المؤسسات، بل تحاول تجاوزه كي تحكم على هواها، وتريد أن تتصرف خارج الضوابط وكأن القانون الذي يسري على الآخرين لا يسري عليها. هذا الأمر كان واضحاً على سبيل المثال في سلسلة الفضائح التي عصفت بفترة جونسون؛ من الحفلات التي أقامها في مقر رئاسة الوزراء في ذروة جائحة «كورونا» في خرق فاضح لإجراءات الإغلاق والتباعد التي فرضتها حكومته على الناس، إلى «كذبه» مراراً على البرلمان والشعب حول تمويل الديكور الجديد لمسكنه في 10 داوننغ ستريت، وبشأن قضايا أخرى.
ترمب أيضاً كان يحب أن يتصرف على هواه، لذلك كثيراً ما اصطدم مع وسائل الإعلام التي كانت ترصد هفواته وتصريحاته المجافية للحقيقة. لكن أكبر خطاياه كانت محاولته قلب نتيجة انتخابات الرئاسة التي عدها «مزورة» في ولايات لم يفز بها، ورفضه الاعتراف بالهزيمة حتى اللحظة غير آبه بالضرر الذي يلحقه بالديمقراطية الأميركية. وعلى الرغم من أحداث اقتحام الكونغرس التي تجرى التحقيقات حول ملابساتها، وحول دور الرئيس المحتمل في تهيئة أجوائها ومحاولته التأثير على مسؤولين لتغيير نتيجتها، فإن ترمب ما زال يلمح إلى أنه ينوي العودة والترشح لانتخابات الرئاسة في 2024.
الأمر المثير للتساؤلات والقلق هو أن ترمب ما زال يحظى بتأييد واسع في قواعد الحزب، بل وفي أوساط عدد من أعضائه في الكونغرس الذين يراهنون على قدرته الشعبوية و«جاذبيته» في حشد وتأجيج الناخبين. وأنصار ترمب والمرشحين الذين يتلقون دعمه يفوزون اليوم في الانتخابات التمهيدية لاختيار مرشحي الحزب لانتخابات الكونغرس النصفية التي ستجري في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل ويتوقع أن تغير تركيبة المجلس لمصلحة الجمهوريين. هذه الانتخابات سيكون لها تأثير كبير على ما تبقى من فترة بايدن، وعلى حظوظ ترمب السياسية ومشروعاته المستقبلية.
في بريطانيا أيضاً هناك جدل حول حملة يقودها البعض لدعم محاولات جونسون البقاء في منصبه، وإجبار نواب الحزب في البرلمان على السماح له بالعودة عن الاستقالة. فقد نشر موقع «كونسيرفاتف هوم» عريضة تطالب بإعطاء أعضاء الحزب فرصة للتصويت بشأن قرار إقالة جونسون.
ويؤيد العريضة أحد كبار المانحين الذين يتبرعون للحزب، وهو بيتر كروداس، وعضو البرلمان الأوروبي السابق ديفيد كامبل بانرمان الذي قال أول من أمس إن نحو 14 ألف شخص وقعوا حتى الآن. ويستند مؤيدو جونسون إلى هذا الاستطلاع للادعاء بأن نسبة مقدّرة من قواعد الحزب تؤيد إعادته لمنصب رئيس الوزراء، أو على الأقل وضع اسمه على ورقة الاقتراع مع المرشحين الآخرين، ريشي سوناك وزير الخزانة وليز تراس وزيرة الخارجية، بحيث تكون هناك فرصة للأعضاء للتصويت لإعادة اختياره لمنصب رئيس الوزراء لو رغبوا. في الوقت ذاته ترددت تكهنات عن تمرد محتمل من أعضاء الحزب ضد المرشحيْن الحالييْن لزعامة الحزب ومنصب رئيس الوزراء بهدف ضرب العملية وإجبار الحزب على إعادة النظر في التخلص من جونسون.
وعلى الرغم من أن قيادات من المحافظين تشكك في العريضة على أساس أن أكثر الموقعين عليها ليسوا أعضاء مسجلين في الحزب، إلا أن المسألة فتحت باباً للجدل، وأضافت للتساؤلات المثارة بشأن آلية اختيار زعيم الحزب، الذي سيصبح تلقائياً في الحالة الراهنة رئيساً للوزراء خلفاً لجونسون. فوفقاً للوائح الحزب الحالية فإن اختيار زعيمه يتم عبر عملية من مرحلتين؛ الأولى يقوم فيها نواب الحزب في البرلمان بالتصويت لتصفية المرشحين حتى يتبقى اسمان فقط، يتم الدفع بهما في المرحلة الثانية إلى عضوية الحزب للتصويت عليهما من قبل الأعضاء المسجلين رسمياً والملتزمين بسداد رسوم العضوية، ويصبح الفائز هو الزعيم الجديد.
المشكلة هنا أن عضوية الحزب التي ستقرر الزعيم المقبل تقدر بنحو 160 - 180 ألفاً، نحو 97 في المائة منهم من الرجال، البيض، الذين يعيش أغلبيتهم في جنوب إنجلترا، ومتوسط أعمارهم 60 عاماً. فكيف يعقل أن يقرر هذا العدد الضئيل الذي يمثل أقل من 0.03 في المائة من مجموع الناخبين، من يكون رئيس وزراء بريطانيا المقبل؟
هذا العدد الصغير لا يمثل قاعدة الحزب العريضة التي تصوت له في الانتخابات لكنها غير مسجلة رسمياً في قوائم العضوية. ففي الانتخابات الماضية في عام 2019 صوت 14 مليون شخص لحزب المحافظين، ليسوا بالضرورة كلهم من المنتمين للحزب، وهؤلاء، أو فلنقل الأغلبية العظمى منهم، ليست لديهم كلمة الآن في الشخص الذي ستختاره قلة ضئيلة ليكون الزعيم القادم، لا لحزب المحافظين فحسب، بل لبريطانيا كلها طيلة الفترة المتبقية حتى الانتخابات العامة المقبلة المقررة في 2024.
لذلك ليس غريباً أن نسمع اليوم أصواتاً في حزب المحافظين تدعو لتغيير هذه الآلية في اختيار زعيم الحزب. ويرى الداعون لهذا التغيير أن الأمر يجب أن يترك لنواب الحزب في البرلمان لاختيار الزعيم لأنهم يعرفون قوة كل مرشح من زملائهم ونقاط ضعفه أفضل بكثير من أعضاء الحزب العاديين.
أضف إلى ذلك أن النائب بمجرد انتخابه في الانتخابات العامة فإنه يصبح ممثلاً لدائرته كلها، بمن فيها من محافظين وعمال وليبراليين ديمقراطيين أو غيرهم، ولا يمثل قواعد حزبه فقط. وبالتالي فإن هذا النائب عندما يصوّت اليوم لانتخاب زعيم الحزب الذي سيصبح رئيس الوزراء تلقائياً، فإنه يحمل ثقل دائرته كلها.
بريطانيا مثل أميركا، تواجه اختباراً للديمقراطية وسيبقى كل من جونسون وترمب شوكة في خاصرة حزبيهما وهما يحاولان إيجاد طريقة للعودة إلى السلطة.