كيف يحصل الإصلاح أهمية التاريخ الثقافي

كيف يحصل الإصلاح؟ أهمية التاريخ الثقافي

كيف يحصل الإصلاح؟ أهمية التاريخ الثقافي

 العرب اليوم -

كيف يحصل الإصلاح أهمية التاريخ الثقافي

رضوان السيد
بقلم رضوان السيد

توماس باور، أستاذ ألماني يعمل منذ ثلاثة عقودٍ ونيف على التاريخ الفكري والأدبي للحضارة العربية والإسلامية بطرائق مختلفة عما اعتاده المستشرقون، وعما اعتاده المفكرون العرب في الأزمنة الحديثة. المستشرقون الذين أدان إدوارد سعيد مقارباتهم الشاملة للحضارة الإسلامية باعتبارها انحيازاً لوجهات نظر غربية تخدم السيطرة والسطوة في الزمن الاستعماري، يرى فيها باور تفسيراً ناقصاً أو بدءاً من الموقع الخطأ؛ ولذلك لا بد من البدء من الرؤية الغربية نفسها للحضارة الغربية. ودليله على ذلك، أنّ المستشرقين ذوي الثقافة الغربية بالطبع توصلوا إلى وجود حقبة انحطاطٍ طويلة في الحضارة الإسلامية بعد القرن الثاني عشر الميلادي وحتى الأزمنة الحديثة. وهي الفكرة نفسها للانحطاط الذي نزل بالحضارة الغربية فيما بين القرنين الخامس والخامس عشر، فيما سُمّي بالعصور الوسطى، عصور الانحطاط والظلام. ولذلك لا بد من البدء بفحص رؤية العصور الوسطى تلك فحصاً نقدياً، وهو الأمر الذي بدأته مدرسة «الحوليات» الفرنسية منذ عشرينات القرن العشرين، وتوصلت من خلال إعادة قراءة مجريات ومنتجات القرون العشرة إلى أنّ البعث الحضاري أو النهوض بعد القرن الخامس عشر إنما بدأ وتطور في «العصور الوسطى» نفسها المتهمة بالانحطاط.
ولهذا؛ فإنّ المستشرقين عندما قالوا بالانحطاط في الحضارة الإسلامية إنما كانوا ينقلون أو يقلّدون التصور الغربي لحضارتهم هم في الأزمنة ذاتها. ولذا؛ فالذي ينبغي إدانتهم به أو الأخذ عليهم بشأنه (وإدوارد سعيد يعتبرهم سطحيين أيضاً بالمقاييس النهضوية الغربية) أنهم وهم يكتبون مقارباتهم «العلمية» عن حضارة الإسلام ما لاحظوا الحراك التاريخي الكبير الذي كان يجري باتجاه إعادة قراءة العصور الوسطى الأوروبية، بحيث يصيرون وأمامهم النتاجات الفكرية والعلمية الكبيرة للحضارة الإسلامية إلى تأويلاتٍ أخرى للوجود الحضاري العربي والإسلامي وتأويلاته. ولهذا؛ فإنّ الرؤية الإصلاحية التي ينبغي أن يصير إليها المفكرون العرب من أجل الإصلاح الحديث والمعاصر، لا تكون بضرورات القطيعة مع حضارة الإسلام القديمة؛ بل بالمراجعة وتجديد الفهم، كما فعل الغربيون مع عصورهم الوسطى، وليس من أجل التقليد، بل من أجل التجديد تطلباً لفهم التأزم الحاصل اليوم، وكيفيات الخروج منه.
بدأ توماس باور دراساته بتجديد الفهم للظواهر الأدبية العربية فيما سُمّي بعصور الانحطاط بعد القرن الثاني عشر الميلادي. ثم تقدم لبحث الرؤى الفكرية والعقدية في الحضارة الإسلامية الكلاسيكية. بعد الظواهر والتيارات الأدبية في الشعر والنثر، صار باور إلى تأليف كتابه الذي صار شهيراً بعنوان «ثقافة الالتباس». فالحضارة العربية الإسلامية في أزمنتها الكلاسيكية (فيما بين القرنين الأول والخامس للهجرة) حافلة بالتيارات المتعددة التي تعرفها الثقافات المزدهرة، ولا فرق في ذلك بين الفكر الديني والفكر الفلسفي والفكر الأدبي. في الحقبة ذاتها تطورت العلوم البحتة والتطبيقية ذات الأصول الإغريقية والفارسية والهندية، وصارت هائلة الانتشار والإنجاز والإبداع وظلّت على النحو نفسه حتى أنّ الأوروبيين في جامعاتهم توصلوا إلى نتاجات ابن سينا والرازي وابن الشاطر في القرن السابع عشر الميلادي. فلماذا يقال بالانحطاط في الفكر الديني والأدبي في الحقبة ذاتها؟ الالتباس - كما في عنوان الكتاب - ليس آتياً من الصراع بين المحافظين والمتحررين - كما ذهب إلى ذلك غولدزيهر - بشأن علوم القدماء؛ بل لأنّ الاختلاف بين التيارات العقدية والفكرية، كان قد جرى تجاوزه باتجاه تعدديات الازدهار حتى في تفسير القرآن، وفي صنع الجديد والمتقدم.
وبعد ثقافة التعدد المزدهرة في تلك الحضارة الكبرى، جاء كتابه الصغير «لماذا لم تكن في الإسلام (عصور وسطى؟)» بالمعنى الذي صار إليه المستشرقون ومن ورائهم مؤرخو الحضارة الأوروبيون. قامت الرؤية الغربية (والاستشراقية) على أنّ قطيعة حصلت بداخل الحضارة الإسلامية بعد القرن الخامس الهجري مع الحضارات الكلاسيكية بسبب سيطرة المحافظين بداخل ثقافات الإسلام وحضاراته. والحقيقة، أنّ الاستمرار الحضاري ظلَّ سائداً في زمن النشوء وفي الزمن الكلاسيكي في كل شيء، وليس في العلوم البحتة والتطبيقية فقط؛ بل وفي الثقافة والعمران وتيارات التفكير الديني والفلسفة والأخلاق. والفرق في الفهم، أنه في مرحلة معينة ما عاد المسلمون في حاجة إلى التقليد والاقتباس، بل كما في كل الحضارات الكبرى، وبعد الاستيعاب والتمثل - ومن جانب المحافظين وغيرهم – استتبّت مسارب ومسالك الثقافة بالإنتاج الخاصّ والإبداع وليس في العلوم وحسْب؛ بل في الفكر الفلسفي والكلامي واتجاهات التفكير الديني في التفسير علوم القرآن والحديث وعلوم الكلام، ومن قبل وبعد علوم اللغة ونظريات الشعر والنثر والبلاغة واللسانيات.
يتشارك المثقفون العرب مع المستشرقين والكُتاّب الغربيين في رؤاهم إلى انحطاط التقليد الديني والفكري بعد التمدح بازدهار القرن الرابع الهجري المستند إلى الإغريقيات! ثم ينتهون إلى أنّ الخروج من الانحطاط يكون بالقطيعة مع الموروث الانحطاطي، والالتفات إلى حضارة العصر وعصر العالم! وتوماس باور - وقد صارت توجهاته تياراً – يعتبر أنّ هذا التصور خطأ محض، ويخضع لرؤى الصحويين والمتشددين في الحضارتين؛ بل لا بد لتجاوز التأزم من العودة لقراءة وقائع الحضارة ومجرياتها. معظم المستشرقين وبعض مؤرخي الحضارة يذهبون إلى أنّ الخروج من انحطاطنا يكون بالمصير، كما صار الأوروبيون والغربيون بعامة إلى مغادرة عصورنا الوسطى، كما غادروا عصورهم الوسطى. وهم لم يفعلوا ذلك إلا جزئياً في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وحتى عندما كانوا لا يزالون في الرؤية القديمة لزمانهم الحضاري، انصرفوا لبعث الحضارتين الإغريقية والرومانية لتكونا أساساً في النهوض وإعادة تعريف الهوية والإطلال على مستجدات القرون وتأصيلها. التطور الثقافي والحضاري مثل التطور العلمي. ربما لا يكون ضرورياً استعادة تاريخ الطب أو الهندسة (رغم أنه يحصل)، أما التاريخ الثقافي والحضاري فهو ضروري من أجل فهم الذات الإنسانية، والذاكرة الثقافية والإنسانية. لقد حاول ذلك على سبيل المثال محمد عابد الجابري، وقد خطا خطوات، إنما ظلت غالبة عليه نزعة القطيعة التي استعارها من الأبستمولوجيا الفرنسية.
إنّ التجاذب في أوساطنا الدينية والثقافية أنتج تيارات قطيعة وتشدداً. لكن كما أعاد الغربيون النظر ويعيدون، وكذلك اليابانيون والصينيون والهنود؛ فإنّ إعادة النظر من خلال تاريخٍ ثقافي جديد، يظل أمراً ضرورياً للحاضر والمستقبل. لا عودة للماضي، وهي عودة غير ممكنة على أي حال. لكن لا بد من إعادة قراءة ليس الماضي، بل التاريخ من أجل الحاضر والمستقبل.

arabstoday

GMT 13:05 2024 السبت ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حزب الله بخير

GMT 11:57 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

مرحلة دفاع «الدويلة اللبنانيّة» عن «دولة حزب الله»

GMT 11:55 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

هل هذا كل ما يملكه حزب الله ؟؟؟!

GMT 20:31 2024 الجمعة ,13 أيلول / سبتمبر

عشر سنوات على الكيان الحوثي - الإيراني في اليمن

GMT 20:13 2024 الخميس ,12 أيلول / سبتمبر

صدمات انتخابية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

كيف يحصل الإصلاح أهمية التاريخ الثقافي كيف يحصل الإصلاح أهمية التاريخ الثقافي



GMT 10:34 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
 العرب اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 13:32 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
 العرب اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 10:29 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
 العرب اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 20:44 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
 العرب اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 03:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 06:15 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط وإزالة الحواجز إلى قصرَين

GMT 04:01 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 20:58 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

الجيش الأميركي يقصف مواقع عسكرية في صنعاء

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

موسكو تسيطر على قرية بمنطقة أساسية في شرق أوكرانيا

GMT 14:19 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

إلغاء إطلاق أقمار "MicroGEO" الصناعية فى اللحظة الأخيرة

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

وفاة جورج إيستام الفائز بكأس العالم مع إنجلترا

GMT 17:29 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

سائق يدهس شرطيا في لبنان

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

إصابات بالاختناق خلال اقتحام الاحتلال قصرة جنوبي نابلس

GMT 07:06 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مقتل 6 في غارة إسرائيلية على مدرسة تؤوي نازحين بغزة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab