بقلم:جميل مطر
لا شاغل يشغل السياسيين الأوروبيين كما الشرق أوسطيين وبخاصة العرب والإسرائيليون أكثر مما تشغلهم اللامبالاة المتزايدة من جانب الرئيس الأميركي دونالد ترمب بحال الأمن الإقليمي في كل من أوروبا والشرق الأوسط. بين هؤلاء من يضيف إلى أسباب قلقه وقلق قطاع مهم في الطبقة السياسية الحاكمة غموض المستقبل وصعوبات التنبؤ به في ظل ظروف سريعة التغير وكثيرة التقلب. أسرّ إليّ سياسي كبير بأن مسؤولين كثيرين في أوروبا والشرق الأوسط، وآخرين في جنوب وجنوب شرقي آسيا وفي أستراليا بخاصة، منشغلون بخلاصات وخواتيم دراسات وتحليلات استراتيجية توصلت إلى أن السياسة الخارجية الأميركية صارت منفتحة على احتمالات تغيرات جوهرية، استمر الرئيس ترمب في الحكم أو غاب عنه.
يؤكدون في أوروبا أن حلف الأطلسي في حال انحدار منذ أن ساد شعور بأن الولايات المتحدة فقدت هاجس الانشغال به كعادتها منذ أن كان إحدى أهم أدوات تنفيذ سياستها الخارجية. آخرون في القارة وخارجها، وللغرابة في إسرائيل، لا يخفون الشك في أن عصر السلم الأميركي، وفي منظورهم وعقيدتهم الاستراتيجية أنه استمر مدة ثلاثة أرباع القرن، بدأ يعلن عن اقتراب نهايته. فإن صحّت كل هذه التوقعات فسيكون منطقياً أن يقع على عاتق هذا الجيل من السياسيين في الدول العظمى الانتهاء بالسرعة الممكنة من صياغة منظومة أمن عالمي تحل محل المنظومة التي ملأت فراغ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وأن يقع على عاتق الأوروبيين والعرب والشرق أوسطيين صياغة منظومات أمن ودفاع إقليمية جديدة تحل محل المنظومات القائمة بعد أن تيقن أصحابها من عجزها أو فشلها. هناك في أوروبا كما في العالم العربي صنعوا مؤسسات نشأت رمزية وبقيت في أغلب مراحل عمرها رمزية.
الحديث لم يتوقف في كلٍّ من أوروبا والعالم العربي عن ضرورة إقامة «نظام أمن مستقل استقلالاً ذاتياً استراتيجياً». كان حلماً من أهم أحلام الاندماجيين العرب لمستقبل أمن النظام العربي والدفاع عن حدوده ومصالحه، وحلماً لبعض السياسيين الأوروبيين وعلى رأسهم الجنرال ديغول. عاش يحلم بنظام يضمن أمن ومستقبل أوروبا مستقلة الإرادة عن النفوذ السوفياتي والأميركي. لم يتحقق الحلم هنا أو هناك. ومع ذلك لم يتوقف الحلم. استمر يتطور مبتعداً ما أمكنه الابتعاد عن العاطفة والخيال في بعض مكوناته ومقترباً، إن أمكنه الاقتراب، من واقع الأحوال في عالمنا المعاصر. هنا وهناك يلاحظ السياسيون مؤخراً أن الولايات المتحدة مستعدة للمساعدة، ليس كحليف كالعهد بها في عصر هيمنتها، ولكن كوسيط كالعهد بها قوة دولية بنفوذ واسع. تراهم أميركا، كما عبّر بنفسه الرئيس ترمب عن رأيه في بعض حلفائه الأوروبيين، ليسوا حلفاء محل ثقة أو صدق أو مستعدين للمشاركة في تكلفة المساعدة حسب قواعد وقوانين التحالفات، ويراها الحلفاء دولة عظمى تتخلى عن أدوات عظمتها. كثيرون، في كل مكان، يفكرون في أن التحالفات الثابتة، صارت كالصداقات الدائمة، نفحات من الماضي لا تتكرر.
نفترض والحال على ما نحن فيه أن يتضاعف نشاط السياسيين الأوروبيين في اتجاه إقامة منظومات لـ«الدفاع الذاتي الاستراتيجي»، فلا يعودون ينتظرون حمايةً من حلف تقوده دولة عظمى خارجية بدأت تتخلى عن مسؤولياتها كقائد حلف أو أكثر. الحلم جميل كالعهد به دائماً وتحقيقه بالغ الصعوبة أيضاً كالعهد به دائماً. تقف دون تحقيقه بسهولة أو في وقت قصير عقبات مهمة، أختصرها بتوزيعها على ثلاث مجموعات كالتالي:
المجموعة الأولى، وتتكون من عناصر أغلبها تاريخي ونفساني وخلاصات تجارب سابقة. كلنا نقدّر ثقل الخوف كعائقٍ تاريخيٍّ حالَ دون وقوع السلم واستقراره لمدد طويلة ودون اندماج أو تعاون أسرع وأعمق بين شعوب أوروبا. أول ما تعلمنا في كتب التاريخ الأوروبي وأهم ما تعلمنا هو هيمنة عقيدة الخوف. تعلمنا أن أوروبا عاشت عمرها تخاف من نفسها على نفسها، وتخاف من نفسها على شعوبها، وتخاف من شعوبها على شعوبها، كل شعب ضد الآخر، وتخاف على كل شعب من نفسه. لا مبالغة كبيرة فيما أكتب كخلاصة ما تعلمناه في المدارس عن تاريخ أوروبا.
يتطلب تحقيق الأمن المشترك، أو الاندماج الأمني، تنازلاً في جزء ولو رمزياً في السيادة للأعضاء الآخرين في منظومة الأمن المقترحة. التجارب تثبت أن الأوروبي لن يتنازل لأوروبي آخر. هذه عقبة... عقبة أخرى تضمها هذه المجموعة من العقبات هي أن الاندماج لا يتحمل الانسحاب، وبناءً عليه تعثرت مختلف محاولات دمج الأمن في منظومة اندماجية كبرى. القاعدة تحكم بأن اندماج قطاع يعتمد على اندماج قطاع آخر والانسحاب من قطاع يجبر قطاعاً آخر على الانسحاب. لاحظ أيضاً، وهنا العقبة الكؤود، أن الاندماج الأمني، بحكم التعريف، يقع في قلب مفهوم «الأمة». بمعنى آخر يحل السؤال التالي: أيُّ أمن «أوروبي» هذا في قارة لا تؤمن شعوبها بأن أوروبا وطن لها وأمة؟ (راجع من فضلك تجارب الاندماج في النظام الإقليمي العربي).
المجموعة الثانية، وتتكون من قضايا ومسائل تفرّق ولا توحّد. خلاصتها أن شعوب أوروبا رغم عضوية دولها في الاتحاد الأوروبي فإنها في أذواقها وميولها السياسية واختياراتها الكبرى تظل مختلفة، بعضها عن البعض الآخر. أراها مختلفة في اختيار أنماط الحكم في دولها، وفي علاقاتها بالدول العظمى. تجد الدول الأوروبية مختلفة في نوع الروابط التي تربطها مثلاً بفرنسا عن نوع روابطها بألمانيا، تختلف كذلك على الموقف من حقوق الأقليات والعلاقات بين الطوائف ومع الأديان الأخرى. نراها لا تزال تداوي ما نسميها الجروح التاريخية. نعرف بالممارسة والمعايشة أن برلين لا تثق بباريس ولا بوارسو ولا بروما وأثينا، والعكس بالعكس، وكل من بودابست وبراغ لا تثقان بفيينا عاصمة النمسا. والجميع لم يثقوا بلندن عبر مئات السنين ولن يثقوا بها حتى بعد أن تخرج من أوروبا. لاحظنا أنه في ظل الهيمنة الأميركية على أوروبا من خلال قيادتها لحلف الأطلسي استطاعت وبنجاح قبل وصول ترمب إلى واشنطن أن تجبر الأوروبيين على عدم الزج بخلافاتهم في شؤون الأمن الإقليمي الذي تقوده الولايات المتحدة. هذا الوضع اختلف مع ترمب الذي لسبب لا يبدو مفهوماً حتى الآن شجّع هذه الخلافات بل وفجّر بين الأوروبيين خلافات جديدة. المؤكد أنه لو استمرت هذه الخلافات الجديدة والقديمة ففي الغالب لن يقوم للأمن القومي الأوروبي في الأجل المنظور تنظيم يرعاه ويحفظه.
المجموعة الثالثة، وتتكون بدورها من عناصر تتعلق بالمكانة والدور. فقد تسببت العضوية في الاتحاد الأوروبي في تمييع دور ومهام الدولة القائد في الإقليم. بمعنى آخر أسأل إن كان يمكن لنظام أمنى أوروبي مستقل أن يحقق وظائفه من دون الوضوح الكامل والضروري لدور ومهام الدولة القائد في هذا النظام. هل تقبل أوروبا بأن تقود ألمانيا منظومة أمن أوروبي دون أن يوضع في دستور المنظومة كل الشروط والقيود لمنع ألمانيا من أن تقود كما كانت أميركا تقود؟ من ناحية أخرى، لا أظن أنه يوجد في أوروبا الآن الدولة القادرة والراغبة في تحمل جانب كبير من التكلفة المالية لمنظومة أمن أوروبية مستقلة.
أميركا تواصل انسحابها. بهذا الانسحاب أربكت أوروبا والشرق الأوسط وتركت النظامين الإقليميين من دون نظام أمني مناسب يحميهما من توسع روسي واختراق صيني ونزاعات بلا حصر. أربكت أيضاً مساعي تثبيت الاستقرار في إقليم جنوب آسيا وغرب الباسيفيكي.