قضينا المرحلة الجامعية معا. كنا جيرانا فى الحى وأصحابا بالضرورة فأمه وأمى شريكتان فى جهد تطوعى بحينا والحى المجاور. افترقنا بعد الجامعة المصرية، هو إلى جامعة أخرى وأنا إلى جامعة ثالثة. رحلنا فى وقت واحد لمزيد من التحصيل العلمى. تباعدت بنا المسافات والسنون وذات يوم بلغت فيه من العمر ما يستحق الاحتفال تلقيت من صاحبى وجار طفولتى رسالة مطولة أنقل لكم منها أهم تفاصيلها.
أهنئك يا صديقى بالعمر الذى بلغت وحققت فيه إنجازات علمية وفيرة. نستطيع الآن أنت وأنا أن نفخر بما فعلنا وبالقرار الواعى الذى اتخذناه بالرحيل عن الوطن لنحصل على ما لم يكن ممكنا الحصول عليه لو تفرغنا لوظيفة حكومية أو أخرى واكتفينا هناء ودفئا بأحضان الوالدتين. نعم افتقدنا هذا النوع الفريد من الأحضان، نوع لم تعوضنا عنه الأنواع الأخرى رغم غزارتها وتنوعها. عند الحديث عن الأحضان أريد أن أكتب لك بعضا يسيرا من كثير لم أبح به لك طيلة سنوات افتراقنا.
• • •
تبدأ الرواية برسالة تلقيتها بعد أيام قليلة من وصولى إلى هذه القرية الجامعية الهادئة. استغربت الرسالة فأنا لم أتصل بأحد من سكان القرية باستثناء مالكة الغرفة التى أقطن فيها فى بيت ريفى ورثته السيدة عن زوجها وكان أستاّذا بالجامعة قضى فيها مع زوجته كل سنين زواجهما. كانت الرسالة بتوقيع اسم لم أتعرف على صاحبته للتو فزادت الدهشة مختلطة بالفضول. عدت بلهفة قوية إلى مقدمة الرسالة عسى أن أجد هناك ما يروى الشغف.
كانت الرسالة موجزة وجافة وباللغة الإنجليزية ترجمتها كالتالى: الأستاذ فلان. سمعنا عن وصولك وقرأنا فى صحيفة الجامعة خلاصة سيرتك الذاتية ووفقا لعادتنا يسعدنا نحن بنات وأبناء أعضاء هيئة التدريس ومجلس الأمناء دعوتك لحفل راقص وعشاء يقام على شرفك بغية تعريفك كقادم جديد ببعض من هم فى جيلك ويشاركونك بعض اهتماماتك. تصلك غدا معلومات عن موعد الحفل ومكانه.
• • •
فى اليوم التالى خرجت فى جولة أتعرف من خلالها على أهم معالم القرية. مررت على موقف لسيارات الأجرة اصطفت فيه سيارتان. اقتربت منهما. خرج من إحداهما رجل فى عمر متقدم يعرض أن يأخّذنى بسيارته لنصعد معا الجبل الشامخ الذى يطل على القرية بحنان كهل يطل على أحفاده، طلة تكاد تحتضن القرية بكل أحيائها. اعتذرت للرجل بأننى جديد على القرية وأرغب فى التعرف عليها وسوف أبدأ من عاليها وفى نيتى أن أستقل المركبة الطائرة فى صعودى وأعود مشيا على القدمين. وبالفعل تركته شاكرا وبناء على إرشاداته توجهت إلى محطة «التليفريك». هناك فى المحطة وقفت إلى جانبى فى انتظار العربة سيدة فى منتصف العمر سارعت بسؤالى إن كنت غريبا. استغربت السؤال فلم يختلف ملبسى عن ملابس غيرى من شبان القرية كما أن لون بشرتى لا يشى بغربة. تبادلنا المعلومات. عرفت منها أنها ممرضة فى مستشفى الجامعة القائم على نهاية الطريق الصاعد إلى قمة الجبل، وعرفت منى أننى عينت حديثا محاضرا فى إحدى كليات الجامعة وعند أى عائلة أقيم وأننى دعيت لحفل يقيمه الشباب على شرفى. عرفت منها أن صاحبة الدعوة للحفل تنتمى لعائلة معروفة، بل هى العائلة التى ساهمت فى تأسيس الجامعة، وأنها واحدة من أجمل فتيات القرية وأوفرهن نشاطا فى خدمة المجتمع. تواصل حديثنا فى العربة التى نقلتنا فى رحلة بين القمم حتى وصلنا إلى محطة نهاية الخط عند سفح المستشفى. قضيت الصباح أتجول معجبا بالمكان والناس والبيوت المتناثرة بألوانها الهادئة فى بطون الجبال المحيطة بالقرية.
عدت مع الظهيرة إلى القرية. مشيت فى اتجاه وسط القرية. هناك قررت بناء على توصية من صاحبة السكن يعززها رأى سيدة التيلفريك أن أتناول وجبة غذائى فى مقهى تشرف على إدارته وعلى مطبخه عائلة هندية. انتهيت من تناول الطعام وطلبت القهوة وبدأت فى إشعال سيجارتى عندما سمعت صوتا يغرد على مقربة حميمة من أذنى مستأذنا لاقتحام خلوتى. رفعت رأسى من صفحة فى دورية أسبوعية كدت أبدأ فى قراءتها لأرى إلى جانبى فتاة فارعة الطول. تأهبت للنهوض من مقعدى لأداء فرض التحية فإذا بها تمد يدا تربت بها على كتفى وتضغط بما يقترب من الإيحاء بأن لا أتحرك، وفى اللحظة نفسها مدت يدا أخرى إلى المقعد المقابل لمقعدى تسحبه وتعده لتجلس عليه. لم تنتظر دعوتى لها بالجلوس بل جلست بعد أن قدمت نفسها «أنا صاحبة رسالة الدعوة. عرفت من صديقة تعمل بالمستشفى أنك قد تأتى إلى هنا لتناول الطعام. أعرف أيضا أنك من مصر حيث أنهيت دراستك الجامعية وفترة فى الدراسات العليا وأنك حصلت على منحة من جامعة فى أمريكا ومنها حصلت على الدكتوراه وما زلت فى الخامسة والعشرين من عمرك. أنت الآن أصغر محاضر فى جامعتنا وعديد الشباب فى الجامعة يتطلعون للتعرف عليك وتسهيل إقامتك بيننا. أردت أن أكون أول من يعرض عليك خدماته. أتمنى أن تقبلنى مساعدة لك إلى حين يستقر بك المقام فى قريتنا وجامعتنا». لا أعتقد أنها انتظرت أن أجيب. واليوم وأنا أكتب لك أظن أنه لم يخطر على بالى أن أجيب أو أنها سوف تسمح لى بأن أجيب.
استدرت لأنادى على النادل عساها تنشغل به فأجد فسحة من الوقت أفكر فى إجابة مناسبة. عدت من الاستدارة لأراها تنظر نحو النادل نظرة تحمل تعليمات. سألتها إن كانت تشرب الشاى كعادة أهل القرية فى مثل هذه الساعة، أجاب النادل عنها، «السيدة لا تشرب سوى الماء الطبيعى، وبعد إذنك سوف أحضره لها». أما هى فوضعت يدها فوق يدى وقالت «أراك محرجا. أرجوك تخلع هذا الحرج. ستكون أولى مهامى عندك أن أساعدك فى هذا الأمر. اشرب قهوتك واستعد للخروج. سوف أكون مرشدتك السياحية لهذه المدة القصيرة فى هذه القرية الصغيرة. خلال رحلتنا بسيارتى المتواضعة سوف أدلك على معالم القرية وأطلعك على أسرارها، وفى نهاية الرحلة آخذك إلى خزانة أسرارى ولكنى أحذرك بأننى لن أسمح لك بفتحها والاطلاع على ما فى داخلها إلا إذا تأكدت من أنك رفعت الحرج وزال الخجل».
• • •
صديقى، هل ما زلت معى؟ إذا فلتنتبه إلى الآتى. قلت لها وكنا فى السيارة هى تقود وتتكلم وأنا أركز على تفاصيل وجهها الممتزجة أحيانا بخصلات شعرها المائجة بفعل الريح المندفعة من فتحات الشباك المجاور لمقعدها. لم أعرض عليها الاعتماد على الشباك المجاور لمقعدى إن فتحناه. ترددت فالهواء العاصف كان سيحرمنى من صوتها، فالصوت كما سبق وأدركت كاشف جيد للشخصية تتبدل موجاته مع تبدل أحاسيس المتكلم وأهوائه. لن أستطيع أن أنقل لك كل أبعاد اللحظة التى عشتها حين مدت يدها لتمسك بيدى وتحنو عليها بضغطة خفيفة ولكن فاعلة. كانت تقول بهذه الضغطة، «أنا أقدر اهتمامك بتفاصيل وجهى ورقبتى وبعض جسدى وأقدر حرارة وصدق مشاعرك وتفاعلاتها وأنا أتكلم. كدت أطلب منك أن توفر بعض هذه المشاعر للحظات أو لأيام أخرى قادمة». بدا لى، يا صديقى، أنها تخشى أن أستهلك طاقة الإعجاب قبل أوانها. من ناحيتى كدت من فرط حرجى أجاهر بالقول أنا لست واحدا من رجال يخرون صرعى أمام أول بسمة تعاطف أو أول لمسة يد. منعنى عن الجهر بهذا التصريح خشيتى من أن أكون ظهرت أمامها بالفعل كواحد من هؤلاء الكثيرين. ألم أتصرف طوال لقائنا الأول تصرف المنبهر والمستسلم فى مواجهة جمال أخاذ وذكاء ناعم كالحرير وجاذبية نادرة فى نطق الحروف واختيار الكلمات. أنا نفسى تساءلت ساكتا أليس لى حق أن أجزع أن يكون كل ما رأيت وسمعت بعد ظهر اليوم معدا ومدروسا بعناية؟. درايتى بالنساء ليست بسيطة. أدرى مثلا أن المرأة عادة، حتى وإن أحبت، لا تكشف عن كل ما فى عقلها وفى قلبها فى مرة واحدة وبالتأكيد ليس فى أول مرة. الرجل على العكس بسبب ندرة صبره وتضخم ذاته مستعد فى أى وقت وفى كل وقت لإفشاء كل أو أغلب ما ائتمنه عليه قلبه وعقله. تعرفنى يا صديقى أنا لست هذا الرجل ولن أكون. ولكنى أعترف لك أن بعض انفعالاتى الداخلية يمكن أن تخون طباعى فتنعكس على قسماتى الخارجية. فجأة وجدتنى أحاول الهرب. وجدتنى أطلب منها أن تذهب بى فى اتجاه البيت الذى أقيم فيه متذرعا بالتعب فجاء ردها مرطبا ومهدئا، قالت «طلبت منك فى بداية المشوار أن ترفع الحرج وتعزل الخجل. عرفت طباعك وطريقة تفكيرك ومستقبل علاقتنا فى اللحظة التى مددت فيها يدى أربت بها على كتفك وأمسح بها العرق من على جبهتك».
• • •
ما إن دخلت غرفة نومى حتى ألقيت بنفسى على الفراش مرهقا. لم أكن أعرف أن العاطفة ترهق إن جاءت فى شكل عاصفة. لم أنم جيدا. قضيت بعض الليل أفكر فيما يخبئه الزمن لى فى هذه القرية. جئت إليها متحمسا لأداء واجبات شاقة من أجل وضع أسس مستقبل أكاديمى مبهر فإذا بى وفى أوائل أيامى هنا أجد نفسى على مشارف حياة بمعان مختلفة.
صديقى العزيز. استيقظت مبكرا صباح اليوم التالى وكلى ثقة بضرورة توخى الحذر. أدركت أننى شخص مختلف عن الشخص الذى وصل إلى هذه القرية قبل ساعات معدودة. عرفت أننى لن أتخلى عن هدف تركت بلدى من أجل تحقيقه، عرفت أيضا أننى لن أتخلى عن علاقة أو شراكة عاطفية لاحت لى أولى علاماته. أملى الآن أن يتكاملا: الهدف الذى جئت من أجله والعلاقة التى وجدت من أجلى.