بقلم : سليمان جودة
كان الشاعر العربي يقول:
ألا قُل لمن يدعي في العلم معرفة
حفظت شيئاً وغابت عنك أشياءُ
وأغلب الظن أن مؤتمر برلين الذي دعت إليه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، قد انعقد صباح الأحد ثم انفض في المساء، بينما المعنى الكامن في هذا البيت من الشعر يرفرف فوق قاعاته، وتكاد كلماته ترتسم على كل جدار التقى وراءه المدعوون!
فمن بين الأشياء التي حفظها الذين دعوا إلى المؤتمر، وكذلك الذين وقفوا خلف فكرته، أن التوجهات المعلنة من جانبهم قد بدت صادقة في اتجاه الوصول إلى حل للقضية في ليبيا، التي لا يمر عليها يوم إلا وتبدو فيه أمام العالم، وكأنها كرة من الثلج راحت تتدحرج فيتضخم حجمها ساعة بعد ساعة. إنني أتحدث هنا عن التوجهات المعلنة، وفي ذهني ما كان الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب يقوله دائماً. كان يقول: أظهروا لنا أحسن ما عندكم والله أعلم بالنوايا!
هذه واحدة... والثانية أن المؤتمر قرر في اللحظات الأخيرة، دعوة طرفي القضية في ليبيا إلى حضور أعماله، وقد حضر المشير خليفة حفتر، قائد الجيش الوطني الليبي، وكذلك فايز السراج، رئيس ما يسمى بحكومة الوفاق الوطني، لكنهما لم يظهرا في الصورة التي ضمت المدعوين الأساسيين من رؤساء الدول والحكومات ومن الوزراء، وقد أشارت إدارة المؤتمر إلى أن حضورهما بهذا الشكل قد جرى الاتفاق عليه!
وأنا أصف السراج بأنه رئيس ما يسمى بحكومة الوفاق، ليس على سبيل التقليل من شأنه، ولا من شأن حكومته، لكن لأن الحكومة التي تحمل هذا المسمى يتعين عليها أن تسعى بالوفاق بين الليبيين جميعاً. والحقيقة أن ما نراه منها على الأرض هذه الأيام هو الشقاق لا الوفاق!
غير أن المهم في الموضوع أن حفتر والسراج كانا هناك؛ لأن الذين تابعوا أخبار هذا المؤتمر منذ بدء التحضير له قبل شهور، يذكرون جيداً كيف أن الكلام كان يقال علناً، عن أن ليبيا لن تكون حاضرة فيه، سواء على مستوى المسؤول عن جيشها، أو على مستوى المسؤول عن حكومتها، وكان ذلك من دواعي الأسف لدى كل الذين قرأوا عن شيء كهذا وتابعوه!
ولم يكن الأمر مفهوماً؛ لأن مشهد انعقاد المؤتمر وانطلاق أعماله دون حضور ليبيا على المستويين، كان أقرب ما يكون إلى إقامة حفل عرس كبير، دون حضور العريس ولا العروس!
وكان الشيء الآخر الذي حفظه المؤتمر، أنه دعا بعض الدول العربية إلى مائدته، وكانت مصر في مقدمة هذه الدول، ومعها الإمارات والجزائر، فالقضية في ليبيا تخص كل دولة جارة لها أولاً، سواء كانت هذه الدولة تتحدث العربية، أو كانت دولة أفريقية غير عربية، ثم تخص بالضرورة كل دولة عضو في الجامعة العربية، بحكم روابط كثيرة في هذا الشأن ليس هذا هو مجال حصرها!
لكن الشيء الذي لفت انتباه المتابعين أن تونس لم تكن حاضرة، رغم الجوار المباشر الذي يربط بينها وبين الدولة الليبية، وقد كانت الرئاسة التونسية على حق تماماً، عندما أصدرت بياناً قالت فيه إنها تعتذر عن عدم الحضور لسببين، أولهما أن الدعوة إلى الحضور في برلين لم تصلها في البداية، دون تفسير مفهوم ودون منطق مقبول، والآخر أن المسؤولين عن توجيه الدعوات قد استدركوا الأمر في النهاية، لكنهم استدركوه متأخراً جداً؛ ولذلك جاء اعتذارها عن عدم الحضور اعتذاراً في مكانه!
ولم تكن تونس وحدها في هذه الطريق؛ فالمغرب أيضاً أدهشها ألا تكون بين الحضور، وقد كانت دهشتها في محلها، لا لشيء، إلا لأنها عضو مع ليبيا في كيان إقليمي اسمه الاتحاد المغاربي، يضم معهما تونس والجزائر وموريتانيا. والطبيعي أن قواسم مشتركة تجمع الدول الخمس، ثم الطبيعي أن ما يمس عاصمة في أي دولة منها، يمتد بتأثيره المباشر وغير المباشر إلى العواصم الأربعة الباقية!
فكيف تجلس الجزائر على مائدة تتناول الشأن الليبي، ثم تغيب سائر الدول التي تستظل بالاتحاد المغاربي، حتى ولو كان اتحاداً نظرياً في الجزء الغالب منه حتى اللحظة؟! ومن الواضح أن هذا السؤال كان محل بحث عن إجابة لدى الحكومة المغربية في العاصمة الرباط، بمثل ما كان محل بحث عن إجابته نفسها في باقي الدول أعضاء الاتحاد... لكن دون جدوى!
وكان دخول الخرطوم على الخط ذاته له ما يبرره؛ فالسودان ليست فقط دولة عربية بالنسبة إلى ليبيا، لكنها دولة من دول الجوار المباشر معها. إن بينهما حدوداً مشتركة، وأي نظرة على مفردات الخريطة في القارة سوف تقول هذا وتشير إليه، وقد كان حضورها بالتالي إلى جوار مصر والجزائر من بين البديهيات المستقرة، التي لا يجوز أن تكون موضعاً للجدل والنقاش!
فإذا انتهينا من قائمة الدول الجارة التي غابت، وجدنا أنفسنا أمام دولتين جارتين أيضاً، لكنهما أفريقيتان، الدولتان هما تشاد والنيجر، وفي كل المرات التي كان وزراء خارجية مصر، والجزائر، وتونس، يلتقون على طاولة تبحث عن حل للمسألة الليبية، كان لقاؤهم يوصف بأنه لقاء وزراء خارجية دول الجوار مع ليبيا، وكنت أعلق على هذا كثيراً وأقول، إنه ما دام لقاءً لدول الجوار الليبي، فإن ثلاثة وزراء آخرين للخارجية يجب أن ينضموا إلى الطاولة، هُم وزراء خارجية السودان، وتشاد، والنيجر!
وإلا، فكيف يمكن الحديث في لقاء كهذا، عن أدوات ضبط الحدود الليبية مع جيرانها، بينما بعض الدول الجارة حاضر، وبعضها الآخر غائب عن المشاركة الواجبة؟!
القضية في ليبيا هي في النهاية شأن ليبي مجرد، ولا حل لها ما لم يتضح هذا في ذهن كل مسؤول ليبي، لعله يتصرف على أساس من هذا الإدراك، ثم إنها في حاجة إلى أن تكون بالوضوح نفسه في ذهن كل مواطن يرغب في أن يكون وطنه آمناً ومستقراً. والقضية من بعد ذلك هي شأن عربي وأفريقي معاً، بحكم هذا التنوع الحاصل في دول الجوار الست!
هي كذلك لأنه لا أحد سوف يحرص على المصلحة الليبية حرص أهل البلد أنفسهم، ولأنه لا توجد دولة عربية أو أفريقية جارة تطمع في ثروات الليبيين، ولا في شواطئهم، ولا في توظيف إمكاناتهم لصالحها، لا يوجد هذا لدى الدول الست، وما يوجد هو رغبة في أن تقوم على أرض ليبيا دولة قادرة على الدفاع عنها، وحماية حدودها، وإتاحة قدر من الاستقرار فيها!
ليبيا تواجه صراعاً فيها وصراعاً عليها، وليس سراً أن الأول يدور في داخلها بين طرفين أساسيين، وأن الآخر يجري في أغلبه بين أطراف إقليمية ودولية على ثرواتها، والدول الجارة الست لا يعنيها الصراع الأول إلا بقدر ما يحقق صالح البلد وصالح أبنائه واستقراره، لكن الصراع الآخر هو على مصالح لأطرافه، لا على صالح الليبيين بأي حال... فلينتبه الليبيون الذين هم أصحاب القضية الأصلاء!