بقلم - عبد المنعم سعيد
ألح علىَّ هذا العنوان «مصر التي في خاطرى» من المقال الذي نشره صديقى العزيز د. حسام بدراوى في هذا المقام، قبل أسبوع. كلانا على أي الأحوال استعار العنوان من أغنية أم كلثوم الشهيرة، بكلمات أحمد رامى، وتلحين الموسيقار رياض السنباطى. الأغنية وطنية من الطراز الأول، حيث تمتزج فيها الكلمات مع اللحن والأداء الفريد لكى تلهب المشاعر الوطنية بالحب والاستعداد للفداء. الأغنية فيها الكثير من الفخر بشعب مصر الكريم، ونيلها المعطاء، وظلها الظليل بين المروج الخضر والنخيل، وهكذا أوصاف فيها الكثير من العواطف التي تستحقها مصر. الكلام ربما كان جزءًا من الزخم الوطنى الملتهب في ذلك الوقت من عام ١٩٥٢ بالرغبة في التخلص من المستعمر، واستمرار مصر كريمة ومستقلة. مضى على ذلك سبعون عامًا هي عمر الطبيب الماهر، وباتت القضية هي كيف تكون مصر جزءًا من عصرها؛ وما يطرحه على تلاميذه وحوارييه هو التحدى القادم من عالم يسير بسرعة شديدة تكنولوجيًّا وفكريًّا، وما يترتب عليها من نتائج يتحول فيها العالم، وربما الكون، من حال إلى آخر. نقطة البداية التي يطرحها هي الإجابات التي تأتى من الاعتزاز بمجد مصر التليد من الفراعنة حتى العصر الحديث مع مولد الدولة المصرية الحديثة؛ أو ما كان من قوة ناعمة استندت إلى عمالقة الغناء والموسيقى ومفكرين وكُتاب تتلمذ على أيديهم جيلنا، ولكن حصيلة أفكارهم ونغماتهم وأشعارهم كانت وليدة الأربعينيات من القرن الماضى؛ أو ما كان من اعتقاد الكثيرين من الكرامة والشموخ الأخلاقى. أما داخل الأسرة المصرية فإن هناك صورة رومانسية عن العلاقات داخلها بين الكبير والصغير، وتقاليد الجماعة، التي تعتمد على بعضها البعض بإيثار وانتباه لا يقطعه موبايل ولا يعبث به كمبيوتر. في العموم كان الماضى المصرى مثاليًّا، أو هكذا يسود ظن لا كان فيه العمر قصيرًا، ولا كانت فيه الأمراض المعدية متواترة، ولا كانت فيه الأمية كاسحة.
المعضلة التي تقف بين الماضى والحاضر والمستقبل هي أننا لا نعرف كثيرًا كيف انتقلنا من الأول إلى الثانى، وما إمكانياتنا الراهنة التي تحملنا إلى الثالث: المستقبل. أذكر أنه جمعنى، قبل عقود، جمع مع أصدقاء وآخرين، كان منهم الكاتب القصاص يحيى الطاهر عبدالله، صاحب «الطوق والإسورة» وقصص وروايات عظيمة. كان صامتًا في معظم الليلة تقريبًا، حتى نطق كمَن جاء من جوف الحكمة قائلًا: مادام هذا الرجل يعيش بيننا، فإنه لا أمل لنا. كان كمَن ألقى بقنبلة في الجمع، أو أتى بثعبان ورماه في وسط الخلق. لم يكن يقصد رئيسًا، ولا زعيمًا، وحسبما جاء ممن عرفوه، فقد كان يتحدث عن نجيب محفوظ. كان الروائى الكبير لا يقف حاجزًا فقط بقدراته الفذة، وإنما بما يعتقد أنه قد بلغ منتهى الرواية والصناعة الأدبية. مَن جاءوا بعده كان دائمًا محض تفاصيل، هلّت على البلاد من قبيل ملء الوقت حتى يأتى نجيب محفوظ آخر. زكى نجيب محمود في الفلسفة، وأحمد شوقى في الشعر، والسنباطى وأم كلثوم في الشعر والغناء، ومحمد حسنين هيكل في الصحافة، وسعد زغلول وعبدالناصر في الزعامة، وباقى المسلسل الكبير، ومن بعده لا مجال لأحد آخر. كل مَن وُلدوا في النصف الأول من القرن العشرين، وما تكوّن أثناءه من تقاليد دولة حديثة نسبيًّا، ظلوا ساكنين على القلوب، ولا مجال ليحيى الطاهر عبدالله، ولا أحد آخر. مَن وُلدوا في النصف الثانى من ذات القرن لم يعد لهم نصيب ولا حظ ولا اعتبار. الحقيقة هي أن مصر كانت، كما يُقال، ولّادة؛ أتت من الوِلد الكثير في كافة الفنون والآداب والعلوم والتطبيقات التكنولوجية؛ وكما عرفت الأجيال السابقة السيارة وطرقها، والقطارات وخطوطها، والتليفون ورنينه، والمذياع وصوته، فإن الأجيال الجديدة عرفت من التليفزيون إلى الكمبيوتر وبرامجه، ومن السيارات اليدوية إلى تلك الآلية، حتى وصلت إلى الطائرات النفاثة. وبينما توقف بناء المدن عند قناة السويس، فإن المدن الجديدة عرفتها مصر منذ ثمانينيات القرن الماضى، وحتى العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين. كان بناء السد العالى في أسوان نقلة تكنولوجية فذة، وكذلك إنشاء خطوط «المترو»، وحفر ستة أنفاق أسفل قناة السويس. خلال السنوات العشر الأخيرة، دخل سوق العمل عالى المحتوى التكنولوجى ستة ملايين من المصريين؛ جميعهم يعرفون أشكالًا من الحداثة، و«بيوت الراحة» والماء النظيف والكهرباء، التي لم يعرفها مصريون قبلهم. وكما هو الحال دائمًا وُلد أدباء ومفكرون وعلماء. في الثانى من إبريل ٢٠١٨، تُوفى أحمد خالد توفيق، المولود بمدينة طنطا في ١٠ يونيو ١٩٦٢، وعندما مرت جنازته فوجئت النخبة الفكرية المصرية بالمدى الذي وصل إليه ازدحام الجنازة. الرجل كان طبيبًا، ولكنه كان أيضًا روائيًّا من طراز رفيع، هجر سبل الكلاسيكيات المصرية إلى مجالات وآفاق رحبة وواسعة. جرى اكتشاف العظيم الروائى مرة أخرى من جانب كثيرين، كان منهم كاتب هذه السطور. وقتها كان المشاركون في جماعات القراءة المصرية قد تسابقوا على رواياته ومناقشتها. ولم يكن ذلك هو الاكتشاف الوحيد، وإنما تسارعت بعدها موجات للتعرف على جيل كامل من الكُتاب والروائيين. في نفس الوقت كان جيل على الحجار ومحمد منير وعمرو دياب وعشرات غيرهم قد غزوا بمواهبهم أشكالًا جديدة من الموسيقى والكلمة والشعر، وهذه كان لها نجومها التي بدأت بالأبنودى وأحمد فؤاد نجم ومَن جاءوا بعدهما.
في مجالات العلوم الاجتماعية والسياسية جاء سيد ياسين وسعد الدين إبراهيم وعلى الدين هلال، وتولد عن كل واحد منهم طابور طويل من الدارسين والباحثين، الذين بالكم والكيف فتحوا أبواب المعرفة عن مصر والعالم العربى والإقليم الشرق أوسطى، بريادة نابعة من الأرض المصرية كما فعل آباؤهم وأجدادهم من قبلهم. وفى الصحافة لم يكن محمد حسنين هيكل هو نهاية الطريق، فقد كان هناك من الكبار أيضًا ودون ترتيب صلاح منتصر ومحمد سلماوى ومصطفى الفقى وصلاح عيسى وأحمد الجمال وعبدالله عبدالسلام وإبراهيم عيسى، الذي كتب الصحافة وسطر الروايات وظهر في التلفزيون. المقال على وشك النهاية، ولكن ما يحتاجه تلاميذ صديقى حسام بدراوى هو معرفة حالة مصر الآن لمؤلفيها وكُتابها وشعرائها وأدبائها؛ وما لا يقل أهمية عن ذلك كيف وصلت مصر إلى ما فيه الآن، بلا تهويل ولا تهوين. مَن الذي أدخل إليها الكمبيوتر، وبنى المدن والجامعات الجديدة، ومَن الذي يبحث في الذكاء الاصطناعى، ولماذا تصدر مصر الحديد والصلب إلى الولايات المتحدة وألمانيا، وتُنشئ نهرًا صناعيًّا، وتزرع دلتا جديدة، وما معنى الرى المحورى، ولماذا تأخر كثيرًا؟. مصر لن تخترق طريقها إلى المستقبل فقط بالتعرف على التكنولوجيات العالمية الجديدة، ولا باكتساب خاصية السباق مع الأمم الأخرى؛ وإنما الذي لا يقل أهمية معرفة المدى الذي وصلت إليه البلاد، دون أسى أو بكاء على أطلال مَن سبقوا.