بقلم - عبد المنعم سعيد
هذه المرة لم يسعدني الحظ بحضور «منتدى الإعلام العربي» الذي انعقد في دبي؛ نظراً لوجودي في الولايات المتحدة للتدريس في جامعة برانديز بمدينة بوسطن. ولكن لحسن الطالع ومهارة القائمين على المنتدى، وصلني محضر الجلسة المخصصة للإجابة عن السؤال: «هل نحن مقبلون على نظام عالمي جديد؟».
الجلسة جمعت كلاً من الدكتور محمد الرميحي، أستاذ الاجتماع السياسي، بجامعة الكويت، وعبد العزيز الخميس، كاتب وباحث في شؤون السياسة العربية، وأحمد المسلماني، كاتب ورئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجية، وإياد أبو شقرا، كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط». المجموعة يشار لها بالبنان في التفكير العربي، وبينما اتفقت على المكانة المرموقة للولايات المتحدة في قيادتها للنظام العالمي، فإن أبو شقرا أضاف أنها تتعرض للوهن حالياً. أما المسلماني فأكد أن العالم عرف تغيرات في النظام العالمي، وربما تكون اللحظة الراهنة مواتية. من ناحيتي، كان الرأي دائماً هو أن النظام العالمي يمر بمرحلة مراجعة كبيرة، ناجمة عن وهن أميركي وأطلنطي من ناحية، وصعود فاحش في القوة الصينية، وجرأة روسية من ناحية أخرى. مثل ذلك عبّرت عنه في أكثر من مقال: الأول «المراجعة في النظام العالمي المعاصر»، ونُشر في صحيفة «المصري اليوم» قبل عام، والآخر في هذا المقام، بعنوان «مفترق الطريق إلى الجنة أو الجحيم» في مارس (آذار) 2023. وما ألحّ عليّ في إرسال هذه الرسالة، هو المعايشة خلال الشهرين الماضيين مع تجمعات أكاديمية داخل جامعتي، وجامعات أخرى، ولم تكن المناقشات هناك عن الشرق الأوسط فقط، وإنما عن الولايات المتحدة ذاتها، وما يعتريها من تطورات سياسية تفصح عن كثير من الأمور المهمة بالنسبة للمكانة والقدرة الأميركية في العالم المعاصر.
المقال المهم الذي نشره «روبرت جيتس» وزير الدفاع الأميركي في إدارتَي جورج بوش الابن، وباراك أوباما، في دورية «الشؤون الخارجية» بتاريخ 29 سبتمبر (أيلول) تحت عنوان «القوى العظمى المعطلة» أو (The Dysfunctional Superpower). وفي العنوان الفرعي «هل تستطيع أميركا المقسمة أن تردع الصين وروسيا؟»؛ يلخص المسألة. القوة العظمى لا تقاس عظمتها بقدرتها وقوتها العسكرية والاقتصادية والثقافية فقط، وإنما تقاس أيضاً بدرجة وحدتها الداخلية، وما تقدمه من مثال للعالم، سواء من خلال القوة الصلبة والناعمة.
ما أشار إليه وزير الدفاع المخضرم من انقسام داخلي كبير بين الديمقراطيين والجمهوريين، والولايات الحمراء والأخرى الزرقاء، وما يترتب عليه من نتائج، شائع لدى كثيرين؛ ولكنه مثل المرض العضال، أخذ ينتشر بشدة في الجسد الأميركي، فدخل أوصالاً أخرى. فالثابت أن الزلزال الذي أتى بالرئيس السابق دونالد ترمب في مواجهة «المؤسسة الأميركية» التي مثَّلتها هيلاري كلينتون لم ينته بالنسبة له فقط، وظاهر في الاتهامات والمحاكمات التي يتعرض لها؛ وإنما بالنسبة لحزبه الجمهوري أيضاً الذي بات منقسماً بين «الأغلبية» المسماة الجمهوريون من أنصار ترمب، أو جماعة «أميركا أولاً»، و«لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى»، وأنها ليست عظيمة الآن، و«أقلية» تريد أن تبقي الجمهوريين ضمن التوافق التاريخي العام الذي يقبل بنتيجة الانتخابات، وقدسية النظام الانتخابي، وترى في الخروج عليها نوعاً من المروق الذي لا يهدد الحزب الجمهوري فقط، وإنما أميركا كلها. ضمن هذه الأقلية شخصيات مرموقة منها روبرت جيت ذاته.
ما جعل المشهد صارخاً: الانتخابات التمهيدية التي سوف يقوم بها الحزب الجمهوري، من أجل تقديم مرشح يرضى عنه الحزب لمواجهة الرئيس بايدن، الذي لا يوجد مرشح ديمقراطي غيره. وكما هي العادة فإن «المناظرات» تملأ الساحة السياسية خلال فترة الاستعداد لانعقاد المؤتمر العام للحزب بعد الانتخابات التي سوف تجري في الولايات المختلفة مع مطلع العام القادم. وحتى تاريخ كتابة هذا المقال، انعقدت مناظرتان، كان فيهما 7 من المرشحين الذين حصلوا على أكثر من 1 في المائة من التأييد في استطلاعات للرأي العام. تاريخياً فإن عدم حضور مرشح، أو غيابه عن المناظرة، كان يعني انتهاء حظوظه السياسية في المشاركة، وتبقى المناظرات حية. ولكن هذه المرة غاب ترمب، ولكن سيرته ومقامه باتا مسيطرين، وكما يقال: «الفيل في الحجرة» التي تقام فيها المناظرة، وتذاع على جميع أنحاء أميركا والمتابعين في العالم. تاريخياً فإن غياب مرشح لم يعنِ الكثير، ولكن هذه المرة، ومشاهدة المرشحين دون وجوده، أقام مراجعة في حكمة القنوات الناقلة، وفيما نشر إعادة النظر لدى الممولين للمرشحين الآخرين.
أميركا المؤسسية أصيبت بجراح عميقة منذ انتخاب دونالد ترمب في الجولة السابقة، حينما اعتبر انتخابه فرصة للإهانة، والتقليل من شأن المؤسسات جميعها، أمنية وتشريعية. وعندما فشل في الانتخابات التالية أمام بايدن، رفض نتيجة التصويت، واتهم مع كثيرين من الجمهوريين النظام الانتخابي كله بالتزييف والغش، ودعا الجمهور الأميركي للثورة ومواجهة الكونغرس الأميركي ساعة التصديق على نتائج الانتخابات، ولم يبالِ عند مطالبة جماهيره بشنق نائبه مايك بنس الذي كان منوطاً به إدارة عملية التصديق هذه. هذه الحزمة الترمبية من الشكوك في النظام الأميركي، يتوازى معها عدم قدرة الديمقراطيين على مراجعة الترشيح شبه الآلي لترشيح جوزيف بايدن للرئاسة، بيد أن ما يظهر للجمهور العام هو أنه بسبب سنه وصحته، لم يعد قادراً على الحكم؛ كما أن نائبته كاميلا هاريس لم تنجح في إقناع الأميركيين بأنها سوف تصلح لقيادة الدولة.
ما هو أمام أميركا مواجهة أخرى بين ترمب وبايدن؛ بينما حزب كل منهما منقسم على نفسه، وربما كان مارك ميللي، رئيس هيئة الأركان العامة في القوات المسلحة الأميركية قد طرح المسألة الأميركية في خطاب انتهاء مهمته، وأشار فيها إلى التهديد الكبير للنظام الأميركي من قبل قيادة «راغب في الديكتاتورية» (دونالد ترمب).