بقلم - عبد المنعم سعيد
لابد من التفكير فيما يجب التفكير فيه، وهو أن نخلق من الظروف الصعبة الراهنة فرصًا كثيرة، خاصة أن السجل المصرى الحالى يمنحنا قدرات كبيرة لتحقيق هذه الغاية. المسألة ضرورية لأننا على شفا انتخابات رئاسية، وفى مثل هذه الأجواء فإن كثيرًا من النسيان المتعمد جائز لحقائق الأزمات التي واجهتها مصر من قبل وتجاوزتها وفق قاعدة أنه لابد من استمرار التنمية المصرية حتى ولو كان الإرهاب مشتعلًا، أو كانت «الجائحة» قائمة، فالحقيقة هي نجاح مصر خلال السنوات الثمانى الماضية في تحقيق درجة عالية من التقدم ظهرت في معدلات النمو الإيجابية التي استمرت، حتى في سنوات «الجائحة»؛ وفى زيادة مساحة المعمور المصرى؛ وظهرت في التقارير المالية الدولية، التي أعطت لمصر تقديرات إيجابية. خرجت مصر من الاحتجاز حول نهر النيل في اتجاه بحارها وخلجانها، وتماسك ذلك كله بشبكة بنية تحتية قوية ربطت بين الوادى والصحراء، والوادى وشبه جزيرة سيناء.
لكن مع نشوب الحرب الأوكرانية وتفاعل مضاعفاتها مع نتائج أزمة الكورونا وإنتاجها لأزمة اقتصادية عالمية، ظهرت معالم ضغوط كبيرة على الاقتصاد المصرى، حتى بات يواجه صعوبات كبيرة في التعامل مع التضخم المتزايد، الذي بلغ مستويات مرتفعة خلال الفترة الأخيرة، وما ظهر من صعوبات للوفاء بالتزامات مصر إزاء قروضها وديونها الداخلية والخارجية. والأخطر أن الصورة الإيجابية لمصر في التقارير الدولية للمؤسسات المالية الدولية، مثل صندوق النقد الدولى، والتقارير الخاصة بالمؤسسات الاقتصادية الدولية الخاصة مثل «موديز» و«فيتش» و«استاندرد آند بورز»، أصدرت تقديرات سلبية ومتراجعة عن الحالة المصرية واقتصادها. ولكن ولحسن الحظ ونتيجة الإنجازات التي تحققت خلال الأعوام الماضية لم تؤدِّ الأزمة بعد النجاح إلى قلق واضطراب سياسى كما هو شائع في العلوم السياسية.
.. ورغم استخدام جماعات معادية للأزمة واعتبارها فرصة للانقضاض على المشروع الوطنى الجارى، فإن الشعب المصرى في عمومه، ومع سخطه وغضبه، فإن قراره هو التمسك بالاستقرار السياسى وعدم السماح بالعودة إلى التجربة القاسية السابقة قبل عقد من الزمان. تجربة البلدان العربية القريبة في التمرد السياسى قادت إلى حالات يصعب إصلاحها سببت عنتًا وآلامًا يصعب الشفاء منها.
المسألة هنا هي أنه على مصر استمرار التقدم إلى الأمام وليس التراجع إلى الخلف كما جرَت العادة التاريخية المعبرة عن دورات من التقدم تتلوها دورات أخرى من التراجع كما حدث منذ نشأة مصر الحديثة في عهد الوالى محمد على حتى جرى التراجع الكبير بالفوضى وحكم الإخوان في مطلع العقد الثانى من القرن الحالى. ولذا، فإنه من الضرورى وضع المرحلة المقبلة من رؤية «مصر ٢٠٣٠» في إطار زمنى وعملى محدد يمكّن من خلال المتابعة والتركيز من تجاوز الأزمة الراهنة، والمضى قدمًا في تحقيق أهداف مصر الطموحة.
أول ما يجب فعله هو استعادة الثقة في الطريق الذي جرى اختياره في ٣٠ يونيو ٢٠١٣، فلا عودة إلى الفوضى ولا الإخوان. ولكن استعادة الثقة على أهميتها ليست كافية لانطلاقة كبيرة قادمة لا تقل في فاعليتها وطاقتها عن تلك التي سبقت؛ ما لم ترتبط بها رؤية تنفيذية لما سوف يحدث خلال الفترة من الآن إلى ٢٠٢٥، أي قرابة عامين ونصف العام يكون الهدف الكبير فيها «تشغيل التغيير»، الذي تم في مصر خلال الأعوام السابقة سواء كان ذلك المدن التي بُنيت، أو البحيرات التي أُعيد خلقها وتجهيزها، أو مشروع «حياة كريمة» الذي يأتى بالريف المصرى إلى القرن الواحد والعشرين. في هذه المرحلة يمكن أولًا الانتهاء من إدخال ٣.٨ مليون فدان مصرى في الصحراء الغربية وسيناء إلى مرحلة التشغيل الكامل وكذلك التصدير. وثانيًا استكمال ١٧ منطقة صناعية إلى مرحلة التشغيل الكامل عن طريق القطاع الخاص المصرى والأجنبى. وثالثًا بدء التشغيل والتعمير الكامل لما تم الانتهاء منه من المدن الجديدة، وفى المقدمة منها العاصمة الإدارية الجديدة.
وثانى ما يجب فعله هو معرفة أن ما يحدث في مصر هو برنامج إصلاحى واسع النطاق يمثل «العلامة التجارية والسياسية المصرية Brand» إزاء نفسها، وإزاء العالم الخارجى. وهو إصلاح يليق بأمة عريقة، ودولة ذات جذور عميقة لا تدخل في منافسات عقيمة مع دول المنطقة التي أخذت بالفكرة الإصلاحية هي الأخرى، وإنما تسعى إلى التكامل معها. مصر هنا لديها علامتها الحضارية والتجارية والسياسية الخاصة أو باختصار «براند» فعال إقليميًّا ودوليًّا، يضيف ولا ينقص، ويصون ولا يبدد. الحركة المصرية لا تأتى في إطار المنافسة وإنما في إطار طرح أفكار جديدة لم تعرفها المنطقة من قبل كما فعلت مع منتدى شرق البحر الأبيض المتوسط؛ وفى إمكانها أن تدعو إلى مشروعات مشابهة مثل منطقة شمال البحر الأحمر للتنمية والرخاء المشترك.
ثالث ما يجب فعله ربط كل ما سبق بمشروع قومى عملاق يقوم كله على قدرات القطاع الخاص المصرى والاستثمارات الأجنبية سواء بالملكية الكاملة، أو بحق الانتفاع طويل المدى، ويقوم على الاستغلال الأمثل للجزر المصرية، حيث توجد في نيل القاهرة وحدها ١٥ جزيرة، وفى النيل المصرى كله توجد ١٤٤ جزيرة منتشرة أمام ٨١٨ قرية ونجعًا ومركزًا في ١٦ محافظة (أسوان- قنا- سوهاج- أسيوط- المنيا- بنى سويف- الجيزة- القاهرة- القليوبية- المنوفية- الغربية- كفر الشيخ- البحيرة- الدقهلية- دمياط- الأقصر). وهذه الجزر موزعة من أسوان حتى قناطر الدلتا (٥٥ جزيرة)، وفرع رشيد (٣٠ جزيرة)، وفرع دمياط (١٩ جزيرة)، وتبلغ مساحة الجزر ١٥٥٠ كم مربع، أي مثلين ونصف مثل دولة سنغافورة، وأكثر من ثلاثة أمثال دولة البحرين، وأكثر من مثل ونصف مساحة مدينة هونج كونج الشهيرة، وأكثر من ٢٥ مثلًا قدر جزيرة مانهاتن الشهيرة أيضًا في نيويورك، ومن المؤكد أن كلًّا منها تصلح لأن تكون مكانًا للسكن والحضارة لا تختلف كثيرًا عن حى جزيرة الزمالك، أو حى جزيرة المنيل. وكل ذلك بخلاف ٨١ جزيرة في البحر الأحمر، كلها لا تقل روعة عن جزر بحر الكاريبى.
ورابع ما يجب عمله مأسسة الخطاب السياسى للقيادة المصرية من حيث التوقيت، فيكون في افتتاح البرلمان المصرى عرض لما تم وشرح لنتائجه وما عاد به على الدولة والمجتمع، وبعد ذلك عرض لما سوف يأتى خلال المرحلة المقبلة والمتبقية من الرؤية الشاملة للوطن، مع تحديد أولوياتها خلال العامين القادمين. وفى هذا الإطار يكون التجهيز الكريم للانتخابات الرئاسية المقبلة على أساس أنها للفترة الاستثنائية التي أقرها الدستور للرئيس عبدالفتاح السيسى، الذي قاد البلاد خلال فترة حرجة تلت ثورتى ٢٥ يناير ٢٠١١ و٣٠ يونيو ٢٠١٣؛ كما قاد أهم عملية للإصلاح عرفتها البلاد في تاريخها المعاصر، بحيث تستكمل البرنامج الوطنى حتى عام ٢٠٣٠. إجمالًا، استعادة الثقة، ورؤية مصر ٢٠٢٥، هما مزيج من رفع الوعى المصرى بضرورات المرحلة، وبث طاقة إيجابية من الأمل في المستقبل وأن الأجيال المقبلة في مصر سوف تشهد مصر مختلفة عما عرفته الأجيال السابقة.