بقلم - مصطفى الفقي
كنت طفلًا شديد التأثر بما حوله وتحكمه عاطفة تلقائية تجاه أبويه، خصوصًا أن أخى الذى يكبرنى كان يدرس فى مدينة الإسكندرية عند خاله، فانفردت بصحبة أبى فى كل مكان يذهب إليه، وتعودت الاستماع إلى أحاديث الكبار بما فى ذلك تلك الحوارات الصعبة والمتخصصة فى شؤون الزراعة وبنك تسليف الفلاحين والخلافات بين العائلات، والأحداث الكبيرة مثل ثورة 1952 التى قامت وأنا بين السابعة والثامنة من العمر.
كل هذه الأمور مرت على ذاكرتى الطفولية وحفرت فيها حشدًا هائلًا من المعلومات والانطباعات والأحاسيس، فكنت طفلًا عاطفيًا متعلقًا بأسرته متفوقًا فى دراسته، ومع ذلك كنت أحب العطلات المدرسية وأشعر بالسعادة يوم الخميس لأن اليوم التالى هو يوم إجازة، عندما كانت عطلة المدارس يوما واحدا فى الأسبوع، وعندما فرضت الظروف أن أنتقل إلى مدرسة ابتدائية بعيدًا عن القرية التحقت بمدرسة (أبو عبد الله) الابتدائية فى مدينة دمنهور فى حى قريب من سوق (سيدى عمر).
غير بعيد عن المنطقة التى تربى فيها البابا تواضروس الثانى رغم أن أصوله من محافظة الدقهلية، وكنت متعلقًا بزملائى وأصدقائى نخرج سويًا فى عطلة نهاية الأسبوع ولا تخلو لقاءاتنا البريئة من تعليقات ساخرة حول بعض المدرسين مع شعور نحوهم بالامتنان والاحترام، وقد كانت تلك هى سمة العصر الذى تربينا فيه، وكنت أذهب فى العطلة الصيفية الكبيرة إلى بيت جدى الذى كانت له حديقة كبيرة وذات يوم عَبثت بإحدى الشجيرات وكانت شجرة (فلفل حار) من نوع شديد التأثير وفركت عينى تلقائيًا فكانت آلامًا مبرحة لم أشهد لها مثيلًا فى حياتى، وظللت أصرخ.
وجدتى وخالتى لا تعرفان ماذا تفعلان إلى أن هداهما الله لعمل (كمادات) سريعة دافئة على العينين، حتى بدأت أستريح بعد أصعب نصف ساعة شعرت فيها بأننى أكاد أفقد بصرى وأشعر بعذاب وحرقة فى العينين لا نظير لهما، لذلك ارتبطت عاطفتى بالأماكن والأحداث وتكونت لدى رؤية شاملة لما يدور حولى وفهم دقيق للمواقف والأشخاص.
كما تشكلت لدى ذاكرة فوتوغرافية لا يزال شريطها يعبر أمامى من حين إلى آخر، لذلك عشت سنوات الطفولة فى ظل عواطف عائلية مختلفة وتعلق شديد بالأبوين ومرافقتى الدائمة لأبى على امتداد اليوم كله خارج نطاق الدراسة، وعندما دخلت مرحلة الصبا بدأت أشعر باستقلال ذاتى يدفعنى نحو صداقات ما زلت أعتز بها لمن ظلوا أحياء من أصحابها.
ولقد اكتشفت فى سن مبكرة أن لدى نزعة تلقائية لخدمة الناس فى دائرة واسعة تشمل الأقارب والأصدقاء بل والمعارف أيضًا، حتى إن نسبة كبيرة ممن يلجأون إلىّ طلبًا لرفع ظلم أو الحصول على حق أو التيسير فى حل مشكلة لمن لا تربطنى بهم صله شخصية فما بينى وبينهم هو الهاتف وحده، إننى أقول ذلك لكى أعترف بأن جبر الخواطر كان إحدى الصفات الملازمة لى حتى اليوم، حيث أجد راحة نفسية فى قضاء حوائج الناس، وإذا كانت شهادتى عن نفسى مجروحة فإن كل من يعرفنى يؤيد ما أقول، ومنذ سنوات الصحوة المعرفية التى تعبُر عن تطور سنوات العمر فى منتصفها بدأت ألتهم الكثير من مظاهر الرشادة وتحكيم العقل.
وأرفض تلقائيًا الانسياق وراء العاطفة وحدها فأنا أتحمس لخدمة الآخرين دون المضىّ بإلحاح وراء من يتطلعون إلى الاستثناءات والحصول على غير ما يستحقون، ولقد منحنى الله قبولًا لدى معظم من أعرف من حصيلة علاقاتى المتشابكة فى الداخل والخارج، فى الوزارات ومؤسسة الرئاسة وفى مجالات الأدب والسياسة والفن، حتى أصبح لى رصيد ضخم أعتمد عليه بعد صياغته من منظور العقل قبل العاطفة؛ إذ إن صاحب الحاجة مندفع بالطبيعة منحاز لمطلبه حتى ولو كان ذلك على حساب الآخرين.
هذه سطور صادقة للصراع الخفى فى الأعماق بين العاطفة والعقل، وكلما تقدم بنا العمر انتصرنا للعقل بينما لا تختفى العاطفة تمامًا، فهى إحساس وجدانى بآلام الآخرين ومعاناة البشر مهما اختلفت الأصول والأعراق والأوطان والأديان، فكلنا فى قارب واحد إما أن نطفو جميعا وإما أن يغرق الكل!.