بقلم - مصطفى الفقي
يبدو مسرح الأحداث داميًا والحديث عن تسوية القضية الفلسطينية يلوح من بعيد كنوع من الترف الذى لا يمكن تحقيقه فى المستقبل القريب، فالدماء والأشلاء والأحزان والدموع هى كلها سيدة الموقف بسبب ما ارتكبته إسرائيل من جرائم وفظائع لم نر لها مثيلًا فى التاريخ المعاصر، ومع ذلك فإننى أجازف بطرح رؤية سياسية تفتح الأبواب نحو أفكار يمكن أن تؤدى إلى حقن الدماء، إذ يكفى ما جرى ليثبت أن إسرائيل لا تتصرف كدولة احتلال، ولكن تتعامل مع الفلسطينيين بجبروت القوة الأمريكية والدعم اللا محدود من جانب واشنطن فى ظل حكم رئيس أمريكى ضعيف لا يُعنيه من مستقبل المنطقة شيئًا مع عمره المتقدم ورؤيته المحدودة التى سمحت له بأن يحضر مجلس الحرب الإسرائيلى أثناء زيارته للدولة العبرية وتشجيعه للمشاعر الانتقامية لدى أصحاب شهوة الدم والمضى فى التدمير والتخريب وإزهاق أرواح الأبرياء، وذلك فى ظل تدفق الدعم السياسى الغربى للدولة العدوانية العنصرية الاستيطانية إسرائيل، وهنا أطرح بعض الأفكار على استحياء، فالظرف صعب والوضع معقد والنفوس معبأة بشحنات قوية من الألم البشع والحزن الدفين:
أولًا: إنّ أحداث غزة الأخيرة يمكن أن تكون الكابوس الأعظم فى تاريخ الشعب الفلسطينى، ولكنها يمكن أن تتحول أيضًا إلى طاقة إيجابية تحول دون تكرار هذه المآسي، وأنا أرى رغم المناخ المأساوى الذى يعيشهُ الفلسطينيون أنه يجب التقدم بطرح سياسى يبدو فى مظهره ومخبره عادلًا شاملًا لكل الأطراف وعلى كافة الأصعدة، إلا أننى أُطالب الأشقاء الفلسطينيين بأن يلعقوا جراحهم فى أسرع وقت وأن يرتفعوا فوق الأحزان والآلام والدموع والدماء حيث تُعيد حركة حماس النظر فى برنامجها الفكرى والسياسى واتجاهها الوطنى الخالص بحيث تستوعب الرأى العام العالمى فى أكثر الظروف الدولية تعاطفًا مع الشعب الفلسطينى المناضل صانع المعجزات الذى دفع أغلى فاتورة للدم عبر تاريخه المعاصر، وسوف يقول قائل: إن حركة حماس قد عدلّت من برنامجها السياسى عام 2017 وأوحت فى إشارة واضحة إلى اعترافها بدولة إسرائيل، ولكن لم يشفع ذلك التطور المعتدل فكانت المذابح والمجازر وحمامات الدم هى كلها الرد الإسرائيلى على الطرح السياسى الجديد الذى تقدمت به المقاومة الفلسطينية من أجل اكتساب أرضية سياسية جديدة تسمح لنا بالحديث عن مستقبل التعايش المشترك بين اليهود والعرب أو بين دولة فلسطينية منتظرة وقوة احتلال غاشم يصعب التعامل معها بل ويستحيل الحديث عن التعايش جنبًا الى جنب فى ظل إجراءاتها الأحادية الإجرامية التى لم تتوقف أبدًا, إننى أطالب باستغلال زخم التأييد الدولى والتعاطف الإنسانى مع الشعب الفلسطينى فى تقديم صورة جديدة للنضال الفلسطينى الذى يمكن أن يتشكل به مستقبل القضية، ولعلنا نتذكر الإرهاصات المبكرة لمفهوم التعايش المشترك والتى بشر بها رجال مثل بورقيبة والسادات برغم ما لقياه من رفض بل وتخوين أحيانًا.
ثانيًا: إن المناخ الدولى والبيئة السياسية الإقليمية يساعدان معًا على الانتباه للغة جديدة من الجانب الفلسطينى تختلف عن كل ما كان يُقال من شعارات صاخبة وتعبيرات مكررة وأفكار معلبة، وهناك أُطروحات مستمدة من مفردات جديدة جرى تداولها فى الأسابيع الأخيرة ومنها حل الدولتين رغم غموضه وصعوبة تنفيذه إلا أن حل الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية قد لقى تجاوبًا شعبيًا واسعًا رغم اقتران ذلك الطرح بأنها ستكون دولة منزوعة السلاح وربما فى ظل قوات رمزية حارسة من الأمم المتحدة بحيث تكون الدولة الوليدة ابنة شرعية للمجتمع الدولي، إن هناك أفكارًا كثيرة يمكن الدعوة إليها والترويج لها حتى لا تتجمد القضية بعد التضحيات الجسام التى بذلها الفلسطينيون على مذبح الحرية الوطنية والكرامة الإنسانية.
ثالثًا: إن جرائم إسرائيل وأساليبها أصبحت مكشوفة أمام المجتمع الدولى بعد أن مارست كل وسائل الإرهاب وأصبحت بحق النموذج الأول لمفهوم (إرهاب الدولة) وبذلك فنحن أمام نمط جديد من أنماط الاستعمار الاستيطانى فى أبشع صوره، وهنا أطالب بشدة بتوثيق جرائم إسرائيل الأخيرة المحددة بشخصيات معروفة بدءًا من نيتانياهو رئيس الوزراء مرورًا بوزير دفاعه وصولًا إلى قيادات اليمين المتطرف فى الحكومة الحالية وذلك لتقديم الحقائق الموثقة للمحكمة الجنائية الدولية حتى يكون هناك رصيد تاريخى لجرائم إسرائيل التى ينبغى ألا تمر مرور الكرام.
إن ما أريد قوله هو أن القضية الفلسطينية لا تعالج بالإجراءات، ولكنها تحتاج إلى إرادة قوية وشجاعة باسلة وحكمة رفيعة وسياسات واقعية تدرك كيف يتصرف الطرف الآخر فى هذه الظروف، وما هى وسائلنا المتعلقة بالإرادة السياسية التى تدعم النضال الحقيقى والكفاح المسلح المعتمدين على قوة المقاومة الفلسطينية التى تمثل قضية العرب الأولى بل ومأساة العالم المعاصر وذلك بواقعية دولية ورؤية إقليمية تسمح للقضية الفلسطينية بطرح جديد يتماشى مع التطورات التى شهدتها المنطقة على الأرض فى الحرب الأخيرة على غزة، والتى يمكن أن تكون دافعًا لحل القضية بدلًا من تصفيتها، كما يأمل مجرمو الحرب فى إسرائيل.