بقلم - مصطفى الفقي
تعلمت من عملى قريبًا من الحكام فى فترات مختلفة أن غضبة السلطان شديدة وموجعة، وأتذكر أننى تعرضت لواحدة من الأزمات النفسية الشديدة فى عام 2004 عندما استدعانى الأستاذ الدكتور فتحى سرور رئيس مجلس الشعب وأنا رئيس للجنة العلاقات الخارجية فيه، وقال لى إنه قد عرض على الرئيس مبارك دعوة لرئيس مجلس الشعب المصرى لزيارة إسرائيل فى الاحتفال بالعيد الخامس والعشرين لتوقيع اتفاقية السلام، وأن الرئيس قد أشار إلى أن الدكتور الفقى رئيس لجنة العلاقات الخارجية هو الذى يذهب ولا داعى لذهاب رئيس البرلمان المصرى، رغم أنه قد قيل فى الدعوة إن ممثل مصر سوف يجلس إلى جانب شارون رئيس الحكومة الإسرائيلية على منصة قاعة الكنيست كاحتفال رمزى بالسلام مع مصر كأول دولة عربية توقع اتفاقية مع إسرائيل.
وأعترف أننى قد شعرت بشىء من الضيق والقلق، ولكننى مؤمن بأن الزيارة فى حد ذاتها ليست خطيئة، لكن المهم هو مضمون ما تحتويه الزيارة من أحداث ومواقف، لذلك قبلت الدعوة، ولكن كان رد الجانب الإسرائيلى أنه لا أحاديث داخل الكنيست، وأن المندوب المصرى يستطيع أن يقول ما يشاء فى مؤتمر صحفى بعد ذلك، وقد يكون من الأفضل أن يعقده فى بلاده.. وهنا شعرت بأن حسن النية غير متوفر، وأن النتيجة سوف تكون حرق اسمى عربيًا دون عائد، وأن مشاعرى القومية سوف تحول دون قدرتى على الاستجابة لتلك الدعوة المشروطة، وأبلغت الدكتور سرور بذلك، حيث كان فى زيارة لإثيوبيا فى ذلك اليوم، وعندما عرض أمر رفضى على الرئيس مبارك، استشاط الرئيس الراحل غضبًا، حتى إن الدكتور سرور قال أمام أعضاء الوفد المرافق له، ومنهم وزير أعتز كثيرًا بصداقتى له: «إن الفقى لن تقوم له قائمة بعد اليوم».
ولما كانت لدىَّ آلام دائمة فى الركبة، فقد قررت الذهاب لاستشارة طبيبى فى مدينة جنيف، وعندما علم المسؤولون فى الرئاسة بذلك ازدادوا غضبًا، وتلقيت مكالمات تمزج بين الوعد والوعيد، ولكنى تعللت بظروفى الصحية وقررت ألا أذهب، وقلت إننى لا يمكن أن أزور إسرائيل مرة وحيدة فى حياتى دون أن أسجل موقفى القومى، وهو معتدل بالضرورة ولكنه متمسك بثوابت القضية الفلسطينية حتى النهاية، وتم تكليف الأستاذ الدكتور عبدالأحد جمال الدين- رحمه الله- بالمهمة، فقبلها، وقد كان رجلًا طيبًا لا يقل وطنية عن كل من يستنكر معاناة الشعب الفلسطينى والمماطلة فى إعطائه حقوقه والعبث بالشرعية الدولية، وانتهى الأمر باغتيال إسرائيل للشيخ أحمد ياسين، مؤسس وزعيم حركة حماس.. وبعدها بأيام قليلة، جرى اغتيال عبدالعزيز الرنتيسى الذى خلفَ ياسين فى رئاسة الحركة، وقرر الرئيس مبارك عدم المشاركة فى الاحتفال الإسرائيلى، بسبب التصرفات الاستفزازية من جانبهم فى ذلك الوقت..
ولكن الرواية لم تتم فصولًا، فقد أرسلت مقالى الأسبوعى إلى «الأهرام»، فلم يتم نشره، كما توقف التليفزيون المصرى تمامًا عن التعامل معى، وأدركت أن غضب السلطان يحتاج إلى وقت من الصبر ونَفَس طويل، وركنت إلى الهدوء، لكننى نتيجة القلق والضيق بدأت أشعر حينذاك بأعراض نفسية معقدة، كان تشخيص الأطباء لها أنها حالة اكتئاب حاد، وبدأت من يومها أتعاطى أدوية ضد ذلك الاكتئاب، ولازلت أتناول بعضًا منها حتى الآن.. ولقد ظل الأمر على ذلك عدة شهور، وحاول الأستاذ أسامة سرايا، رئيس تحرير الأهرام، التوسط لدى الرئيس بشأن كتابتى فى «الأهرام».. ولكن الأمر استمر عاما كاملا، إلى أن اتصل بى زميلى الراحل اللواء أبوالوفا رشوان، سكرتير الرئيس، وكان يتحدث من شرم الشيخ، وقال لى: إن الرئيس قد سأل اليوم.. ألم يتصل بكم مصطفى الفقى فى الشهور الأخيرة؟، فقلت له: لا، واقترح علىَّ زميلى الراحل أن أتصل بالرئيس لأنه مهيأ لذلك، وبالفعل اتصلت باستراحة الرئيس فى شرم الشيخ، وطلبت الحديث إليه، وما هى إلا دقائق قليلة حتى جاءنى صوت الرئيس قائلًا: يا مصطفى استجبت إلى تحذيرات عادل حمودة ومصطفى بكرى وخشيت الذهاب، فقلت له: لا يا سيدى الرئيس ولكننى وجدت أن المهمة غير مجدية، ومع حديثه شعرت بارتياح، وأضاف مازحًا: أما قصة ركبتك وآلامها فهى قديمة!.
وعادت المياه إلى مجاريها، فقد كان الرئيس الراحل واسع الصدر ولا يرضى بالخصومة الطويلة، ومنذ ذلك الوقت، بدأت أعيش على أقراص الدكتور أحمد عكاشة التى نحصل عليها من صيدلية السعادة!.