بقلم - مصطفي الفقي
استعرت عنوان بنك القلق من صاحبه الأديب الفيلسوف توفيق الحكيم؛ لكى أشير إلى المراحل الأولى من حياتى التى اتسمت بكثير من الانشغال الدائم بالتساؤلات المشروعة للطفولة، ثم امتدت بى الأمور لتصبح هى الأخرى متصلة بالمسائل الكونية والأفكار التى تتعلق بمفهوم الإيمان والعقيدة الدينية، وأصابتنى فى سن مبكرة حالة من الاستغراق الدينى جعلتنى أؤدى فروض الصلاة غالبًا فى المسجد، وأكون إمامًا لزملائى فى المدرسة، كما كنت قد حفظت أجزاء كبيرة من القرآن الكريم ولقد شجعنى على ذلك غرامى الشديد بالمقرئين من كافة الطبقات الصوتية، ومعرفة ميعاد كل منهم فى تلاوته بالراديو أو التليفزيون فيما بعد، وأصبحت أميز أصواتهم للتفرقة بين أكثر من ثلاثين قارئًا للذكر الحكيم أتابع أصواتهم وأسعد بقراءاتهم وميزت بينهم، الشيوخ مصطفى إسماعيل وعبد الباسط عبد الصمد ومحمود خليل الحصرى ومحمود على البنا والطبلاوى وأبو العينين شعيشع ومنصور الشامى الدمنهورى والبهتيمى والدروى وصديق المنشاوى. كما كنت مفتونًا بدرجة كبيرة بالصوت الشجى لإمام المقرئين الشيخ محمد رفعت الذى سمّاه محمود السعدنى بحق قيثارة السماء، ولا بد أن أعترف هنا أنه بعد سنوات معدودة من الاستغراق فى التدين والمبالغة فى تأدية الشعائر حدثت لى ردة كبيرة عندما انصرفت إلى دراسة الأفكار الفلسفية والنظم السياسية، وشرعت فى تناول كل النصوص من خلال قراءة نقدية لا تقبل بالمسلمات وتجادل فى كل صغيرة وكبيرة، وحدث فى داخلى صراع عميق بين الإيمان المسيطر عاطفيًا وبين نزعة إلحادية كنت أرفضها فى أعماقى ولكنى أستسلم لها بالتفكير المجرد والرؤية المباشرة، وما زلت أتذكر أننى تأثرت بكتابين صغيرين أولهما لعالم الفلك د.أحمد زكى وعنوانه (مع الله فى السماء)، وكتاب آخر لمؤلفه ديل كارنيجى وعنوانه (دع القلق وابدأ الحياة)، وذلك بالإضافة إلى خلاصة الفكر المصرى المعاصر لمؤلفات العقاد وطه حسين والحكيم وسلامة موسى بل المنفلوطى، وأشعار شوقى وحافظ، فضلًا عن مجموعات القصص بالإنجليزية،
وقد أصبحت جليسًا دائمًا فى مكتبة البلدية بمدينة دمنهور مستغرقًا فى قراءات واسعة لأمهات الأدب وكتب التراث وعصارة فكر من كتبوا عن حياتهم وتاريخهم، مع ما أحاط بهم من ظروف وملابسات. وفى مارس عام 1964 رحل عن عالمنا المفكر المصرى الكبير عباس محمود العقاد، وقد كنت واحدًا من عارفى قدره ومدركى مكانته فهو ينحت الفكرة نحتًا يعجز عنه سواه، وقد لا يهتم بأناقة العبارة وموسيقى النص بقدر اهتمامه بالمعانى العميقة والتحليل العلمى الذى يقوم على تأصيل الظواهر وتفكيك الأفكار المعقدة أمام القارئ على نحو يدعو إلى الذهول أحيانًا، ولقد كتبت يوم رحيله مقالًا لم أنشره ولكننى آثرت به بعض أصدقائى الذين نصحوا بعدم النشر لما فيه من نزعة تتعارض مع العقيدة الدينية، فقد كان عنوانه (مع العقاد فى السماء)، حيث تخيلته يقف أمام العرش الإلهى فى محاكمة كبرى وهو فى مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر، وتطورت فى الأمر- وهنا مكمن الخطورة والخطيئة معًا- فرأيت أن العقاد يجادل الله سبحانه وتعالى فى خلقه ومخلوقاته ويناقشه فى طبيعة الكون وفلسفة الحياة، ثم يخضع العقاد بعد ذلك لمحاكمة عادلة تدفع به إلى مرتبة عالية وهو الذى لم يحصل على مؤهل دراسى يسمح له بالمرور إلى الظواهر العلمية، ولقد ساعدت على تلك النزعة المتمردة على العقيدة الدينية قراءات ماركسية وتوجهات يسارية انتشرت فى الجو العام فى البلاد، خلال تلك الفترة من حكم الرئيس الراحل عبد الناصر، الذى آمنا به إيمانًا مطلقًا حتى كانت هزيمة يونيو عام 1967 التى ضربت اليقين فى مقتل، ودمرت فى أعماقنا كثيرًا من الأطروحات، وتبدلت معها المسلمات على نحو غير مسبوق، فكان القلق مشروعًا نتيجة الانقلاب على كثير من الأفكار المستقرة والرؤى الثابتة، وبدأت سنوات التخبط والضياع مقترنة ببداية حياتى العملية بعد تخرجى فى الجامعة ومواجهة ظروف الوطن فى أحلك فتراته ما بين عامى 1967 و1973، حيث ساد الإحباط وضربت الهزيمة المشروع القومى فى مقتل، وأفلس بنك القلق ولم يعد لديه رصيد من التفاؤل، لكى تكون كل حساباتنا الفكرية والثقافية مكشوفة أمام واقع سياسى مؤلم وظروف ضاغطة وحزينة من كافة الاتجاهات.