السؤال المباشر والمهم، والذى يفسر كثيراً من الأمور، هو: لماذا اختار الملك سلمان الأمير محمد كى يكون ولياً للعهد؟
كان أمام الملك سلمان بن عبدالعزيز 6 آلاف أمير من آل سعود، من أعمار مختلفة، ومن خبرات متعددة، ومن تاريخ مهنى مختلف.. لكنه اختار الأمير محمد، دون سواه، عن عقل وحكمة قبل أن يكون عن مشاعر أو عاطفة «أبوية».
هنا يبرز السؤال: لماذا الأمير محمد وليس غيره؟
قبل الإجابة يجب أن نعرف معلومة مهمة للغاية عن الرجل «الذى اختار» (الملك) قبل أن نعرف «الذى اختاره» (ولى العهد)؟
قال لى مصدر قريب من الملك سلمان منذ أن كان أميراً للرياض: «سلمان بن عبدالعزيز يتصف بصفات «الخبير المثمن المتمكن» ولكن ليس الخبير المثمن للأحجار الكريمة، بل «المثمن للبشر».
ويضيف المصدر أنه يعرف فى «علم الرجال»، بمعنى أنه يستطيع تقييم حقيقة طبائع وقدرات الناس، مؤكداً أنه يعرف «أى رجل يرسله إلى أى مهمة».
اكتسب الملك سلمان تلك الخبرة من خلال كونه أقدم «رجل» عمل فى مجال الخدمة العامة فى الدولة السعودية منذ العام 1954 حتى الآن بشكل متصل باستثناء بضعة «أشهر».
خبرة التعامل مع إمارة الرياض أكسبت أميرها خبرة غير تقليدية فى فهم البلاد والعباد.
حينما تدخل على سلمان بن عبدالعزيز يمكن للرجل من النظرة الأولى أن يعرف حاجتك ويستطيع فى دقائق معدودات أن يفهم المكتوب فى الملف المنتفخ منذ أن تعلم «القدرة على القراءة المتسارعة».
الذين يعرفون الرجل منذ العام 1954 يعرفون أنه لا يغادر مكتبه إلا بعد أن يكون قد أتم جميع أعماله الورقية وأنهى الملفات المعروضة عليه وحسم كل قراراته اليومية النظامية.
ومنذ أن بلغ الصبى محمد سن العاشرة كان صبياً غير عادى، ففى الوقت الذى كان كل من فى سنه يسعى فيه للعب مع رفاقه كان الأمير محمد يصر على أن يصطحبه أبوه إلى الإمارة وإلى زيارات أعمامه.
كان الصبى يحب مجالس الكبار، يستمع إليهم بإنصات ويحاول أن يفك ألغاز الموضوعات التى يتحدثون عنها.
ظل الأمير محمد لصيقاً بوالده، قريباً منه، مستمعاً جيداً لكل حرف ينطق به، متابعاً دقيقاً لنظامه الانضباطى فى الاستيقاظ المبكر، والعمل الدؤوب، والمتابعة اللحظية لشئون البلاد، وتفاصيل الحكم، والتقارير السرية لأهم شئون الدولة.
وفى الوقت الذى كان شباب العائلة يحلمون فيه بالسفر فى الصيف للترفيه والاستمتاع، كان الأمير محمد يحرص -طواعية- على ملازمة أبيه فى ديوان إمارة الرياض.
رغبة الأمير محمد فى التعلم واكتساب الخبرة فى مجال الإدارة المحلية والتعرف على تطبيق أنظمة الحكم جعلته يحرص على دراسة القانون فى جامعة الملك سعود، وأصر أن يبقى فى الرياض كى يكون بجانب والده ويرفض أى عرض للدراسة فى الخارج.
كان محمد بن سلمان، الذى ولد فى الرياض يوم 31 أغسطس 1985 وتلقى تعليمه الأولى فى مدارس الرياض، طالباً متميزاً عاشقاً للقراءة مثل أبيه، وساعده ذلك النهم للقراءة أن يكون من الأوائل.
عمل الأمير محمد متدرباً فى هيئة خبراء مجلس الوزراء ثم عين فى إمارة الرياض ثم أصبح مستشاراً فى ديوان والده لولى العهد ثم أصبح مستشاراً خاصاً له.
فى مارس 2013 دخل محمد بن سلمان ساحة الكبار حينما عين بقرار ملكى رئيساً لديوان ولى العهد ثم أصبح بعد ذلك وزيراً للدولة، ثم وزيراً للدفاع، لكنه رغم كل المناصب كانت لديه رغبة لانهائية فى التعلم.
ولم يكن غريباً فى ذلك الوقت أن تجد شاباً طويل القامة، ذا لحية مهذبة، صامتاً بشكل لافت، يجلس فى اجتماع لك مع أمير الرياض ثم بعد ذلك حينما أصبح الأمير سلمان ولياً للعهد «يدون بدقة كل محضر جلسة الحوار».
ويقول أحد زوار الأمير سلمان من الإعلاميين البريطانيين إنه فوجئ بذلك الشاب المدون للمقابلة يتقدم منه فى أدب شديد ليقول له: «أهلاً بك فى الرياض»، وحينما سأله من أنت؟ أجاب الأمير محمد: «أنا محامٍ، والرجل الذى كنت تحاوره الآن هو أبى».
ويوصف الأمير محمد بأنه سريع التعلم، يحسن الاستماع، لا يخجل من السؤال حول أعقد الملفات، يبحث دائماً عن أفضل جهات الاستشارة، لديه طاقة عمل استثنائية، جرىء، شجاع، يقتحم أعقد الأمور دون تردد.
من هنا كان اختيار الملك سلمان للأمير محمد بناءً على عناصر موضوعية للغاية لأن شئون الحكم -كما يعلم الملك جيداً- تخضع أساساً للعقل قبل القلب.
من هنا كان اختيار الملك للأمير محمد فى الإمارة، والديوان، وديوان ولى العهد، ثم مكتب وزير الدفاع، ثم وزارة الدفاع ثم ولياً لولى العهد هى خلاصة مراقبة ومتابعة دقيقة من الملك سلمان للأمير محمد الذى أثبت فى كل مرة «القدرة والكفاءة والانضباط والتفانى» المطلوبة لأداء هذه المهام مما رشحه للمسئولية الأكبر وهى مسئولية ولاية العهد.
كان الملك سلمان منذ أن كان أميراً للرياض يقول للدائرة المقربة منه: «سوف يفعل الزمن بنا جميعاً مفاعيله ولا يمكن أن يستمر الحكم أبدياً للأبناء المباشرين للملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، وسوف يأتى اليوم الذى سوف يتعين فيه انتقال الحكم من «أبناء الملك عبدالعزيز» إلى أحفاده.
كل مبادئ الإصلاح والتحديث والتطوير فى كل مجالات المجتمع التى كان سلمان بن عبدالعزيز يحلم بها منذ أن كان أميراً شاباً تولى مسئولية إمارة الرياض وهو فى سن التاسعة عشرة وأثبت من خلال صفات شخصية ومهنية قدرات استثنائية فهمها وحفظها وترجمها الأمير الشاب محمد بن سلمان.
اختار الملك ولى عهده، ليس لأنه الأقرب فحسب، ولكن لأنه -من وجهة نظره- الأقدر على إحداث النقلة النوعية من مجتمع متشدد إلى مجتمع وسطى، ومن دولة دينية إلى دولة مدنية، ومن دولة ذات نظام تقليدى إلى نظام إصلاحى.
وتأتى المرحلة السنية التى يمثلها الأمير محمد كأحد عناصر قوته فى فهم المجتمع الذى يقوده ويخطط له.
إن النظرة المتعمقة للتركيبة السكانية للمواطنين السعوديين هى نظرة كاشفة تماماً لطبيعة الشرائح العمرية الأولى بالرعاية.
يبلغ سكان المملكة 31 مليوناً، 22 مليوناً منهم من السعوديين والباقى من المقيمين.
تبلغ نسبة الشباب الذين هم دون سن الـ31 سنة 36٪ وهى النسبة الأعلى داخل سكان مجموعة دول العشرين.
ويبلغ من هم تحت سن الـ45 عاماً نسبة 18٪، ومن هم فوق الخامسة والستين 3٪ من السكان.
إذن، هذا مجتمع شاب بامتياز سواء فى أطفاله الصاعدين أو فى شبابه، أو فى متوسطى العمر.
هؤلاء هم «كتائب الأمير محمد بن سلمان» وقواه الناعمة نحو التغيير.
هؤلاء فهموا رسالته الواضحة فى رؤية 2030 فى التطوير المالى، وفى جودة الحياة.
هؤلاء يرون فى ولى عهدهم «واحداً منهم يفكر لهم، ومثلهم ومن أجلهم».
الشباب والشابات الآن يجدون فى مدن السعودية متنفساً جميلاً يمارسون فيه حياتهم الطبيعية دون الحاجة إلى اللجوء للسفر للخارج كى يعيشوا «حياة طبيعية كانوا محرومين منها لعقود طويلة بسبب فهم مغلوط فيه غلو وتشدد».
هنا لم تكن مصادفة أن يدرك الأمير محمد بن سلمان أن مشروعه لبناء سعودية جديدة يحتاج -بالضرورة- بناء شخصية «السعوديين الجدد».
غداً، نشرح كيف يتم هذا المشروع؟