الجني العراقي والألاعيب القديمة

الجني العراقي والألاعيب القديمة

الجني العراقي والألاعيب القديمة

 العرب اليوم -

الجني العراقي والألاعيب القديمة

أمير طاهري
بقلم - أمير طاهري

برغم أنه من السابق لأوانه التكهن بنتائج الاحتجاجات الشعبية العراقية الراهنة، فإن هناك حقيقة واحدة واضحة للغاية أن ما نشهده في الواقع العراقي ناجم عن سوء تقدير، وسوء فهم متعدد الجوانب.
فهناك الذين يعتبرون العراق النسخة العلمانية للخطيئة الأصلية. وكانت إطاحة صدام حسين، بالنسبة إليهم، بمثابة نقطة البداية والمنطلق في رحلة لن تودي بهم إلا إلى الجحيم.
وهم يزعمون أن القوة لا يمكنها فرض الديمقراطية على أي مجتمع من المجتمعات، وبالتالي كان من الخطأ الفادح إقدام الولايات المتحدة على غزو العراق، وإطاحة نظام حكم صدام حسين. وهم في ذلك يتجاهلون حقيقة مفادها أنه برغم أن الديمقراطية لا تُفرض أبداً بالقوة، فإن العوائق على طريق الديمقراطية لا تُزال بغير القوة، وقد كان.
ثم لدينا أولئك الذين يعتقدون أنه على رغم رحيل صدام حسين ونظام حكمه، لا تزال النزعة «الصدامية» من السمات السائدة في المجتمع والحياة العراقية. وتدور الأحاديث في مختلف مقاهي بغداد في هذه الأيام عن مخاطر ظهور صدام حسين جديد يجثم على أنفاس العراق.
ويتجاهل الحاملون لهذه الرؤية حقيقة أن السواد الأعظم من شعب العراق قد تجاوزوا عهد صدام وأيامه ولم يعد يطاردهم الكابوس الذي يمثله بعد الآن. ولم يكن ثلثا الشعب العراقي اليوم من عداد المواليد حتى عام 1963 عندما استولى البعثيون على السلطة في البلاد. وكان نصفهم تقريباً من الأطفال أو الحدثاء في عام 2003 عندما انتهى أمر صدام.
ويُصاب المرء بدهشة بالغة عند حديثه إلى المسؤولين أو الموظفين العراقيين في العاصمة بغداد لاستماعه إلى نظريات المؤامرة المعتادة والمبتذلة التي توحي بأن مئات الآلاف من العراقيين قد دُعوا للمجازفة بأرواحهم - مع سقوط أكثر من 300 مواطن صرعى خلال الأسابيع الأربعة الماضية - للانتقام من ديكتاتور لا يرحم طمر التاريخ ذكراه في غياهب النسيان.
ويعتقد المسؤولون العراقيون الذين يحاولون بشتى الطرق تفادي طرح نظريات المؤامرة في أحاديثهم أن الانتفاضة الشعبية الحالية ناجمة عن نقص الخدمات العامة وضعف الأداء الاقتصادي وانتشار الفساد على نطاق غير مسبوق. وبرغم من صحة هذه العوامل وأهميتها، لا تزال الشكوك قائمة بأن الاحتجاجات الراهنة تحمل جذوراً أخرى أكثر عمقاً.
تتكون النخبة العراقية الحاكمة اليوم في الغالب من المنفيين السابقين بأمر النظام البائد، أي الأشخاص الذين أمضوا عقوداً من حياتهم في خارج البلاد ولا يزالون يحتفظون بعائلاتهم في إيران أو أوروبا أو الدول العربية أو الولايات المتحدة. والكثيرون منهم يحملون الجنسيات المزدوجة، برغم أن بعض العراقيين قد تخلى عن جوازات سفرهم الأجنبية لأجل الخدمة في الحكومة العراقية. ولا يعني هذا أنهم يحبون العراق بدرجة أدنى من أي مواطن آخر لم يغادر البلاد من قبل. ومع ذلك، تبقى الحقيقة كما هي، أنهم يملكون مساراً مختلفاً للتعامل مع الأمور، وهم لا يُقدّرون على نحو كافٍ مشاعر المواطنين العراقيين ومظالمهم، ولا سيما جيل الشباب، وما يشعرون به حيال العراق ومصيره في قابل الأيام.
والسواد الأعظم من الشعب العراقي اليوم ليسوا أصغر سناً من النخبة الحاكمة فحسب، وإنما - في بعض الحالات - هم أفضل تعليماً وتثقيفاً وأكثر قدرةً على التعاطي مع تقنيات العصر الحديث. كما يملك جيل الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية
المتطورة خيارات أوسع للاطلاع على مختلف قنوات التلفاز والإذاعة والصحافة المطبوعة والإلكترونية، مما لم يكن الشعب العراقي يحلم به مجرد الحلم في عهد السيطرة الحديدية على وسائل الإعلام إبان حكم صدام حسين.
ويتساءل المسؤولون العراقيون في تعجب كيف يتسنى للكثير من المواطنين العراقيين، بما في ذلك الكثير من الأميين وفق التصنيفات الإحصائية، إرسال واستقبال الرسائل النصية عبر هواتفهم المحمولة أو الذكية. ولا يدرك أولئك المسؤولون أن أفقر الفلاحين العراقيين اليوم يملك القدرة على تعلم أساسيات الأبجدية وبعض المفردات العامة التي تساعده في التعبير عن غضبه وآلامه، وربما تنسيق العمل والتعاون مع أولئك الذين يشاركونه مخاوفه وآماله.
وهناك سوء فهم واضح أيضاً من خارج العراق بشأن المجريات الداخلية.
وفي طهران، حيث الهزة الشديدة التي قاربت العصف بالملالي إثر شدة الانتفاضات العراقية الراهنة، تشيع حالة من سوء الفهم المنسوج حول الزعم بأن الاحتجاجات من أفاعيل الأقلية السنية العربية في العراق، مع السعي للانتقام من الأغلبية الشيعية التي باتت تهيمن اليوم على الحكم والحكومة.
ورددت صحيفة «كيهان» الإيرانية اليومية، وهي البوق الواضح لآراء المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، حالة سوء الفهم هذه في مقالتها الافتتاحية يوم الاثنين الماضي. إذ زعمت الصحيفة الإيرانية واسعة الانتشار أن 15 في المائة فقط من المشاركين في المظاهرات العراقية ينتمون للأغلبية الشيعية من سكان البلاد. وحتى مع ذلك، واصلت الصحيفة الزعم بأن غالبية هؤلاء الشيعة كانوا من أتباع آية الله العظمى محمود حسن حسني الصخري، والفصائل المولوية واليمانية، وحركة الشيرازي المتمركزة حالياً في العاصمة البريطانية لندن.
وطرحت الصحيفة الإيرانية قائمة بالمناطق ذات الأغلبية السنية من السكان في بغداد على اعتبارها مصادر رئيسية للحشود المحتجة التي هزت العاصمة. وتبدو المقالة الافتتاحية كمثل تقرير مرفوع من عملاء الاستخبارات في فيلق القدس تحت قيادة الجنرال قاسم سليماني ومدى صعوبة تفسير كيف يمكن لـ«فتح الفتوح» الذي أحرزه في العراق أن يتحول إلى أكبر هزيمة تلحق بالحركة الخمينية في العراق حتى الآن.
ومن الصعب على زعماء طهران - الذين يزعمون أنهم يتصدرون جهود إعادة إحياء المذهب الشيعي على مستوى العالم بهدف نهائي وهو تحويل البيت الأبيض إلى حسينية شيعية - الاعتراف بأن قنصلياتهم، ومكاتبهم الثقافية قد اشتعلت فيها النيران مع حرق الأعلام الإيرانية على أيدي الشيعة أنفسهم في بغداد.
وينبع سوء الفهم التالي من قبل المسؤولين الأميركيين الذين يعتقدون أن الانتفاضة العراقية وليدة الصراع على السلطة بين أروقة النخبة العراقية الحاكمة، وأنه يمكن السيطرة تماماً على الأمور من خلال إعادة توزيع كراسي الحكم عبر إجراء الانتخابات العامة الجديدة.
وما يغفل عنه هؤلاء المسؤولون أن الانتفاضة العراقية الحالية تعارض كافة شرائح النخبة العراقية الحاكمة ورعاتهم الأجانب، وعلى رأس ذلك إيران. وعلى نطاق أضيق، لا يزال المواطن العراقي العادي يشعر بمزيد من الاستياء من استمرار الوجود الأميركي في البلاد على الرغم من أنه في أدنى مستوياته العسكرية في 15 عاماً. وهناك رفض عام وسائد للتدخل الأجنبي في شؤون العراق من جانب تركيا التي قامت، من دون العزف والرقص السياسي الذي اعتاده الجنرال قاسم سليماني في مسرحية «فتح الفتوح»، بتأمين 11 قاعدة عسكرية تركية على التراب العراقي.
وفي الآونة الراهنة، باتت بغداد الوجهة المفضلة لكافة أنواع وأشكال الخبراء، بمن فيهم البعض من الولايات المتحدة في كثير من الأحيان، الذين ما زالوا ينظرون إلى العراق على أنه مجرد مزيج من العشائر التي يمكن ترهيبها بالسلاح أو شراؤها بالأموال.
وفي أيام عمله قائداً للقوات الأميركية في العراق، كانت لدى الجنرال الأميركي ديفيد بترايوس قائمة فعلية بأسعار شراء ذمم زعماء العشائر العراقية. ومع ذلك، فلقد ولت تلك الأيام إلى غير رجعة، وجاء جيل جديد من العراقيين صار تشبثه بالأصول العشائرية عاطفياً أكثر منه واقعي أو حقيقي.
وتجانب طهران الصواب عند التفكير في التلاعب بفكرة إنهاء الانتفاضة العراقية بحمام دم مماثل لما يجري الآن في سوريا. كما تجانب واشنطن الصواب كذلك عند التفكير أن موسماً جديداً من مواسم الانتخابات بنفس القواعد ولنفس الشخصيات سوف يخدع الشعب العراقي الغاضب. ويجانب ملالي النجف الصواب أيضاً عند التفكير أن العراقيين سوف ينصاعون لفتاويهم الرنانة كما كانوا يفعلون في الأجيال الماضية. ويخطئ زعماء العشائر العراقية خطأً فادحاً عند التفكير في أن شيخ العشيرة يمكنه الحصول على شيك ثقيل مقابل تهدئة أتباعه وأبناء عشيرته.
ومن شأن حالات سوءِ التقدير وسوء الفهم الراهنة أن تؤخرَ من دخول العراق إلى مرحلة جديدة من مراحل تاريخه الحديث، على أمل أن يكون ذلك من باب الدولة القومية القائمة على الشعب وليست النخبة الحاكمة. ولكن الحقيقة لا تزال قائمة على أن الحيل والألاعيب القديمة لن تعيد إدخال الجني العراقي إلى القمقم مرة أخرى.

 

arabstoday

GMT 00:23 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

إسرائيل و«حزب الله».. سيناريو ما بعد التوغل

GMT 00:28 2024 الخميس ,13 حزيران / يونيو

مكاشفات غزة بين معسكرين

GMT 00:37 2024 الخميس ,16 أيار / مايو

التطبيع بعد القمة!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الجني العراقي والألاعيب القديمة الجني العراقي والألاعيب القديمة



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 22:49 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

غارة إسرائيلية على معبر حدودي بين سوريا ولبنان
 العرب اليوم - غارة إسرائيلية على معبر حدودي بين سوريا ولبنان

GMT 15:41 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
 العرب اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 14:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته
 العرب اليوم - نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 06:42 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران ولبنان.. في انتظار لحظة الحقيقة!

GMT 07:07 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة

GMT 07:23 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

"فولكس فاغن" تتمسك بخطط إغلاق مصانعها في ألمانيا

GMT 11:10 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

مسيرات إسرائيلية تستهدف مستشفى كمال عدوان 7 مرات في غزة

GMT 17:28 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

أحمد عز يتحدث عن تفاصيل فيلم فرقة موت

GMT 11:15 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين عبد الوهاب توضح حقيقة حفلها في السعودية

GMT 19:28 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الملكة كاميلا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الآداب

GMT 06:57 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

سبع ملاحظات على واقعة وسام شعيب

GMT 09:52 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

منة شلبي تشوّق جمهورها لمسرحيتها الأولى في "موسم الرياض"
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab