بقلم - أمير طاهري
في خطبة ألقاها مؤخراً آية الله الكلبيكاني في طهران، وهو بمثابة رئيس أركان المرشد الإيراني علي خامنئي، قال زاعماً إن سيده (خامنئي) قد بلغ منزلة لم يعد يقتصر فيها على قيادة العالم الإسلامي وحده؛ وإنما صار يُملي أوامره على أمم الكفر الظاهرة التي باتت في حالة مريعة من التقهقر والاندحار.
وربما يميل نقاد الكلبيكاني إلى توصيف عبارته تلك بأنها من قبيل الغلوّ والمبالغة التي تجاوزت الحدود؛ إذ إن التزلف والتملق والإطراء هي لعنة كثير من ثقافات الشرق الأوسط العتيدة.
فماذا لو أن الكلبيكاني يصدق فعلاً ويعتقد حقاً فيما يقول؟
لا يمكننا استبعاد ذلك ألبتة، لا سيما أن جوقة المتزلّفين بالأقوال والأفعال يواصلون عزل المرشد خامنئي عن الوقائع القاسية والحقائق الموجعة للحياة من حولنا.
يدّعي الفلاسفة المزعومون أن علي خامنئي هو أعظم فلاسفة التاريخ قاطبة منذ أرسطو وحتى اليوم، أو ربما منذ ابن سينا وحتى اليوم كي لا نعدو على فلاسفة المسلمين. ويثني الشعراء المحققون على خامنئي باعتباره أعظم شعراء بني فارس منذ السعدي أو حافظ، رغم أن الحظّ لم يحالف إلا القليل للغاية من المقربين للاستماع إلى قصائد المرشد العظيمة!
ويبدو أنه من المفترض بالمرشد الإيراني أن يكون حاذقاً، وعارفاً، وبارعاً في كل شيء بلا استثناء.
فهناك مؤلفات للمرشد عن المطبخ الإسلامي، ومنهجية الزواج الناجح السعيد، والوصفة الفادحة لتدمير دولة إسرائيل الجانحة، وموسوعة إصلاح العلوم الإنسانية، بل والحضارة الإسلامية الجديدة التي سوف تحل محل الحضارة القديمة التي تحللت وتلاشت واندثرت في غياهب النسيان، ولا ننسى النظر والتفكير في إعادة ترتيب النظام العالمي بأسره.
والتاريخ البشري مفعم بأمثلة عن القادة والزعماء الذين يحلمون بقيادة العالم من شرانقهم الضيقة!
كما يحتوي الأدب الفارسي على كثير من الأمثلة لشعراء الدراهم والدنانير الذين يكيلون آيات المديح والإشادة لملوك الأقزام الذين يحكمون الجزر النائية في البحار البعيدة، ويجعلونهم يعتقدون في أنفسهم أنهم أقدر من كورش الكبير أو أعظم من الإسكندر الأكبر.
وفي أغلب الحالات، يسقط الزعيم المنعزل عن واقع وحياة الناس ضحيةَ داء التوحد السياسي، أو بما هو أسوأ؛ حالة الاغتراب التام. فهو غير قادر تماماً على التواصل الطبيعي مع المجتمع من حوله، لا سيما عن طريق السفر وزيارة مختلف الأماكن والالتقاء بمختلف أنواع البشر... إذ يفتقد الزعيم المنعزل عن الواقع الشعور بالتمييز بين العالم الحقيقي والكون الحالم الخيالي الذي هو من بنات أفكار الحاشية الملاصقة له على الدوام.
وأشار الصحافي المخضرم الراحل ماجد دافامي، أحد الذين أشرفوا على تدريبي صحافياً مبتدئاً، إلى أمثال هؤلاء القادة والزعماء بقوله: «أباطرة سجاجيد الصلاة»، بمعنى: الطغاة الذين لا يتجاوز نفوذهم الحقيقي مجال سجادة الصلاة الصغيرة حتى وإن كانت منسوجة من الحرير والذهب.
وبعد مرور نصف قرن من الزمان، ومع الأخذ في الحسبان أننا أبناء عصر التضخم، فإنني أقترح تمديد رقعة سجادة الصلاة المجازية تلك، حتى نتيح للقادة والزعماء المقصودين مساحة أكبر، ربما حتى كيلومتر مربع واحد، بما يعدّ أقرب إلى الواقع مما يعتقده البعض.
أين كان الخلفاء العباسيون يقضون أغلب فترات حياتهم، قبل أن يتمكن حراس المغول من اغتيالهم، وعندما كانت بغداد حاضرة الخلافة ومركز العالم المتحضر وقتها؟ في مساحة لم تكن تتخطى الكيلومتر المربع الواحد ذلك الذي يقطعه شارع أبو نواس الآن إلى شطرين متساويين. ولأن الأمور لا تتغير على نحو ما نعتقد أو نأمل، فإن النخبة العراقية الحاكمة الجديدة حالياً «محصورة» داخل «المنطقة الخضراء» في بغداد نفسها، على مسافة مرمى حجر واحد من القصر القديم.
وكان أخوند عبد الغفور، الملا الذي عاش في القرن التاسع عشر وأعلن الجهاد ضد الاحتلال البريطاني فيما تعرف الآن بأرض باكستان، يعيش في كهف جبلي تحيط به حديقة لا تتجاوز مساحتها الكيلومتر المربع الواحد.
وفي الآونة الأخيرة، علمنا أن الطاغية السوفياتي جوزيف ستالين، في أوج سطوته وذروة قوته، كانت قدماه بالكاد تطآن خارج مبنى الكرملين. وكذلك الطاغية النازي أدولف هتلر الذي كان مقر حكمه في برلين والآخر في بيرتشسغادن؛ تلك البلدة الواقعة في جبال الألب البافارية... لم يكونا يتجاوزان الكيلومتر المربع الواحد من حيث المساحة.
وكان رفائيل تروخيو، الديكتاتور الأسبق في جمهورية الدومينيكان في خمسينات القرن الماضي، قد قرر تجميل قصر الحكم في سانت دومينغو، ولا تتجاوز مساحته الكيلومتر المربع الواحد، بمنارة عملاقة كانت تستهلك نصف كهرباء الجزيرة وحدها. ومما يؤسف له للغاية، أن تروخيو أصيب بالعمى مع اكتمال بناء المنارة، وأمضى بقية حياته يتخيل الضوء الباهر الذي تبعث به لعبته البائسة عبر أمواج البحر الكاريبي البعيدة.
وغادر ديكتاتور هايتي الأسبق، فرنسوا دوفالييه، والمعروف شعبياً باسم «بابا دوك»، قصره المنيف بمساحة كيلومتر مربع واحد، لمرة واحدة فقط من أجل دفن كلبه المحبب في حديقة بورت أوبرنس المركزية.
والتقيت على مرّ السنين من عملي في الصحافة مع كثير من «أباطرة الكيلومتر المربع الواحد»، الذين كانوا يتجشأون بملء أفواههم؛ كما يقول الفرنسيون.
وكان الديكتاتور الليبي معمر القذافي يعيش في قفص بطرابلس عاصمة بلاده. ولقد ألمّت بي صدمة كبيرة عندما علمت أنه لم يكن لديه الوقت أو الجرأة أو الشجاعة للقيام بزيارة بنغازي منذ سنوات.
وتقابلت ذات مرة مع الطاغية السوداني جعفر نميري في عالمه الكيلومتري الواحد. وأثناء وجودي في البهو الخارجي انتظاراً للمقابلة، اشتعلت النيران على نحو مفاجئ في ستارة من الستائر التي تتدلى على الجدار، مما دفع بحراسه الشخصيين إلى الذعر الشديد والفرار السريع!
وكان الطاغية العراقي صدام حسين «حبيس» قصره الكيلومتري الواحد كذلك، في كل مرة نتقابل فيها قبل أن يقرر غزو إيران.
أما بالنسبة إلى الجنرال محمد سياد بري، طاغية الصومال، فلست على يقين من أنه كانت لديه مساحة الكيلومتر المربع الواحد تلك. فلقد التقيت به في الثكنة العسكرية المركزية في العاصمة مقديشو في تمام الساعة الثالثة صباحاً، ذلك لأنه كان يخشى إنْ ذهب إلى القصر الرئاسي أن يقوم جنوده بالانقلاب عليه!
وكنت قد تناولت عشاءً فاخراً مع الديكتاتور الكونغولي دينيس ساسو نغيسو في العاصمة برازافيل التي تحولت إلى أكوام من الأنقاض والخراب إثر الحرب الأهلية التي استمرت هناك نحو أربعة أشهر ضد خصومه. واقترح أنه ينبغي علينا الخروج في جولة لزيارة معالم المدينة، غير مدرك أنه لم يبقَ شيء هناك سوى القبح.
وفي سبعينات القرن الماضي، وفي أول زيارة إلى بكين، لم أحظ بفرصة مقابلة الزعيم الصيني ماو تسي تونغ نظراً لانشغاله الشديد. وفي ثمانينات القرن نفسه، عندما التقيت مرتين الديكتاتور روبرت موغابي، كان قد أعرب عن أمله في أن يغادر القصر الرئاسي في العاصمة هراري، لزيارة بولاوايو؛ تلك المدينة التي لم تخضع قط لسيطرته. ولم يستطع أن يزورها مطلقاً على حد علمنا.
وأشك في أن أياً من الطغاة السابقين في الاتحاد السوفياتي، بمن فيهم ليونيد بريجنيف، ممن التقيت بهم، قد تمكنوا من مغادرة قصور الحكم التي لا تتجاوز مساحة الكيلومتر المربع الواحد. وكان بريجنيف يملك قصوراً، وكان يطلق عليها فيلات مجازاً، في كل عواصم الجمهوريات السوفياتية الـ14 خارج موسكو. ولكن الناس أخبرونا بأنه لم يقم بزيارة أي من هذه الفيلات أو القصور مطلقاً.
وكانت المساحة المخصصة ليوري أندروبوف، السكرتير الأول للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي السابق خلفاً لبريجنيف، أقل من ذلك بكثير؛ إذ كانت لا تتجاوز حجم السرير الذي كان يلازمه طيلة علاجه من داء الكلى الذي أصيب به قبل وفاته.
واليوم؛ تقتصر إقامة رئيس النظام السوري بشار الأسد على قصر لا تتجاوز مساحته الكيلومتر المربع الواحد في العاصمة دمشق من دون أي فرصة للخروج أو التجول في أجزاء أخرى من بلاده التي مزقتها الحرب الأهلية. أما الجنرال الإيراني قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» الشهير، فيزعم أنه قد منع بشار الأسد من الفرار نظراً لأوامر علي خامنئي ببقائه حيث يقيم، مما يعني من حيث الممارسة العملية أن بشار الأسد قد صار أسير قصره المنيف كمثل علي خامنئي في طهران سواءً بسواء.
واليوم أيضاً، تنحصر إقامة الحوثيين في «إمبراطورية» الحي العثماني القديم المحدود المساحة في العاصمة صنعاء.
ومن خلال مذكرات السير الذاتية، يتيه علي خامنئي بقصائد الفرح والجزل عند نجاحه في زيارة المزارات الشيعية في العراق سابقاً. وهو لا يجرؤ اليوم على الذهاب إلى العراق الذي تهزّه الانتفاضات الشعبية العارمة ضد آيديولوجيته العقيم. والأسوأ من ذلك، أنه يخشى من مجرد زيارة مدينة مشهد الإيرانية، ولا بد من أنه قد صار راضياً تمام الرضا عن الحسينية الصغيرة التي بناها بالقرب من الفيلا التي يقيم فيها والتي كانت من مصادرات الثورة الإسلامية.