بقلم:ممدوح المهيني
يسدد ماسك هجماته المستمرة على وسائل الإعلام، وهي بدورها تفعل الشيء ذاته. تعمقت الخصومة منذ أن أصبح الملياردير الشهير مالكاً لمنصة «إكس». ولكن السؤال: من المصيب ومن المخطئ؟ في الواقع كلاهما على حق وكلاهما على باطل. وتناول هذه القضية مهم لفهم دور الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، ونقاط التقاطع والانفصال.
هو يتهمها بالانحياز، وأنها ذراع للأجندة اليسارية، وأداة في خدمة الآيديولوجيا وليس الحقيقة. وهناك أيضاً جانب شخصي في اتهامه. هو أيضاً تعرض لهجمات قاسية اتهمته بتعاطي المخدرات، وحاولت تلطيخ صورته، وقدمته بالشخص المندفع المتهور وغير المستقر نفسياً.
كلام ماسك في هذا الجانب صحيح. وسائل الإعلام العريقة تحولت في السنوات الأخيرة إلى صحافة رأي وليست خبراً، وهذا شيء يعاكس مبادئها المعروفة عنها سابقاً. بالإمكان أن تدخل على صفحة «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز»، ويكاد يكون من المستحيل أن تجد تقريراً عن ترمب أو نائبه كُتب بطريقة متزنة ولا أقول مؤيدة. أما صفحات الرأي فقد تحولت للأسف إلى كورس يردد الأهزوجة نفسها. تركيب كلمات مختلفة على اللحن ذاته. لقد تحولت قناة عريقة مثل «سي إن إن» في عهد ترمب وحتى الآن من محطة إخبارية كانت تضع مسافة بينها وبين الحدث إلى منصة للناشطين الغاضبين. ورغم أن ترمب قام بتصرفات جنونية وصبيانية، فإن انجراف الصحافة وتحولها إلى طرف يفقدها المصداقية. بعد أن أعلن بايدن انسحابه من الترشح ظهر أحد المعلقين على شاشة «سي إن إن» وأجهش بالبكاء وهو يقول إن بايدن مثل الجد الذي يريد أن يقود سيارته ونحن نمنعه حفاظاً على سلامته! الذين يعرفون قيم الصحافة الحقيقية يدركون أن هذا مشهد يصلح في مسلسل عائلي عن علاقة الجد بأحفاده وليس بوصفه صحافياً يحلل ويقدم معلومات وتحليلات موضوعية! وهذا أيضاً ينطبق على نقد ما يسمى بثقافة اليقظة «wokisim». لا يمكن أن ترى مقابلة أو تقريراً يقدم تصوراً مختلفاً ولا أقول ينتقده أو يرفضه. التعريف البسيط لدور الإعلام هو أن يقدم المعلومات والآراء المختلفة للمتابعين، ولا يفرض أجندته عليهم. ماسك محق وهو يدرك نقاط الضعف هذه جيداً، ويغرس سكينه بخاصرة وسائل الإعلام الضعيفة كونها تفتقد المصداقية والموضوعية، وهو يدرك جيداً حجم الاستياء منها عند شريحة اجتماعية واسعة.
ولكن لماسك أهدافه الخاصة أيضاً وهو يهاجم وسائل الإعلام ويحط من قدرها، ليس لأنها فقط منحازة، ولكن لأنه يريد تقديم منصته «إكس» بوصفها وسيلة الإعلام الأكثر مصداقية وموثوقية أو كما قالت المديرة التنفيذية لـ«إكس» ليندا ياكارينو: «حيث يصنع التاريخ»، بعد إعلان بايدن انسحابه في تغريدة. ولهذا استقطب ماسك مذيعين، مثل تاكر كارلسون، الذي يبث برنامجه على المنصة. ولكن منصة «إكس» ليست وسيلة إعلام مهما حاول ماسك الادعاء بذلك؛ لأنها تفتقد لآلية التدقيق والتمحيص والتأكد من المعلومة ومراجعة مصادرها قبل عرضها على الجمهور. هناك كم كبير من المعلومات الكاذبة في «إكس»، والحسابات الزائفة التي تستخدم في نشر الدعايات المضللة. بإمكان أي شخص أن ينشر إشاعة وتتحول بدقائق إلى حقيقة يتم تداولها على نطاق واسع. والسبب أن منصة «إكس» لا تملك فلاتر تميز بين المعلومة الصادقة والزائفة. ماسك نفسه تورط بنشر معلومات كاذبة، واستخدم منصة «إكس» لترويجها ولم يتراجع عنها. وكارلسون رغم شهرته وتأثيره فإنه أصبح صحافياً حزبياً ومؤدلجاً، وقد حضر مؤخراً حفل الجمهوريين لاختيار ترمب مرشحاً، وكأنه من الحاشية الترمبية! وكارلسون استخدم «إكس» لنشر معلومات مضللة، مثل القصة المخزية التي روجها بحوار شخص مضطرب يدعي أنه على علاقة جنسية مع الرئيس أوباما! وفي سياق دعم منصته غرّد ماسك قبل مدة بأنه ليس من الضروري أن تقرأ تقريراً من 1000 كلمة إذا كنت ستحصل على ذات المعلومة في تغريدة من كلمات عدة! وهذا يشير إلى انعدام كامل لدى ماسك في فهم دور وسائل الإعلام التي تغوص في العمق لتتأكد من المعلومات ومصادرها المختلفة قبل أن تنشرها. وقبل أيام، وهذا مثال فقط، تابعت الصحافة قصة زوج هاريس وعلاقته بمعلمة ابنته. لم تكتف فقط بنشر المعلومات من دون تأكد، بل ذهبت إلى جميع أطراف القصة ما اضطر الزوج إلى الاعتراف بها، وأصدر بياناً اعتذارياً. لقد أجبرته وسائل الإعلام على ذلك ولو كان مجرد منشور على «إكس» أو «فيسبوك»، فعلى الأرجح أنه لن يلقي له بالاً. مصداقية الصحافة تعد سلطة لها.
يخلط ماسك بين دور «إكس» ووسائل الإعلام، ولا يفرق بين الصحافيين والمؤثرين، ولا أصحاب الدعاية ولا أصحاب المهنة، وهو يستغل بذكاء تراجع الإعلام عن دوره ليروج لمنصته، ويجلب لها مزيداً من المعلنين والداعمين. تدفق المعلومات على «إكس» لا يعني أنها كلها حقيقية. ولو صدقنا كل ما فيها من معلومات مضللة لصدقنا أن زوجة ماكرون متحول مثلي في معلومة كاذبة يرددها خصوم الرئيس الفرنسي، ولصدقنا أن ميشيل أوباما رجل! معلومات زائفة مفبركة منتشرة بكثافة في «إكس» لا تجد لها أثراً في وسائل الإعلام المحترمة وليست الصفراء. خطأ وسائل الإعلام أنها تخلت عن دورها، وأتى رجل مثل ماسك وعاقبها، ولكنه يسيء لمنصته لو عدّها وسيلة إعلام؛ لأنها ستتحول إلى مكب للنفايات والأكاذيب، ولا تقارن بها أي وسيلة إعلام رديئة ورخيصة!