بقلم - ممدوح المهيني
هناك سؤال يطرح بشكل متكرر وهو: لماذا ولد النظام الديمقراطي في أوروبا وليس بأي مكان آخر؟
طبعا المقصود الديمقراطية الحقيقية وليست الصورية أو الطائفية أو القبلية. هناك تفسيرات متعددة لهذا السؤال المعقد، وكلها أشبه بطلقات تحذيرية مهمة ليكون المرء أكثر واقعية وحذراً في رؤيته وتوقعاته.
اندلاع الثورات والانتفاضات مرتبط بحالة غامرة ومفهومة من الرومانسية والعواطف الجياشة. وكما نعرف، فإن النظر للواقع بعيون وردية والتغني بالشعارات والأحلام ينتهي في الغالب بنهاية حزينة، كما نرى في دول عربية منهارة.
وللإجابة عن السؤال أعلاه يمكن القول إن هناك أسباباً متعددة تجعلنا واقعيين مملين أكثر أحياناً مما نريد. أول هذه الأسباب أن الليبرالية الفكرية في أوروبا سبقت النظام الديمقراطي بمراحل عديدة. الأفكار المستنيرة وقيم الفردية وازدهار العقلانية واندحار الأصولية كلها سهلت على الديمقراطية كنظام سياسي أن ينبت في تربة صالحة وقام بنهاية المطاف بحماية الليبرالية من خلال تطبيق حقيقي للمفاهيم الديمقراطية التحررية التي تُحمَى فيها حقوق الأقليات من استبداد الغالبية.
انتصار العقلانية والتنوير على الأصولية لم يكن فقط لدى النخبة ولكن أيضاً لدى العامة، حيث شهد لأول مرة في التاريخ انتشار العقلية العلمية. ولهذا سبب منطقي حيث بدأت الجامعات على الطريقة الحديثة وأسهمت في انتشار الثقافة العلمية على نطاق واسع ورسخت الفردية وأضعفت من الانتماءات الفرعية وعقلية الجماعة. هذا في الوقت الذي كانت فيه مساحات واسعة من العالم ما زالت متمسكة بنمط اجتماعي وتعليمي تقليدي لا يمكن أن تنشأ به ديمقراطية على الطريقة الأوروبية.
تخلص الأفراد من النزعات القوية الفئوية أو الطائفية سيسهل عملية ترسخ الديمقراطية كنظام فعال، ومن الصعب تخيل أن أشخاصاً منغمسين بهذه المشاعر القوية سيتحولون مع وجود صناديق اقتراع إلى مؤمنين بالحريات والقيم العالمية للبشرية. الفكر الحر المتسامح يسبق الديمقراطية الإجرائية وليس العكس.
رأينا نتائج سلبية عندما تنقلب الآية. متعصبون منتخبون يزيدون من الأصولية لمعرفتهم كيف يضغطون على أزرار الغرائز المجيشة لجماهيرهم. وأتذكر بتغطية صحافية برلمانياً خليجياً يزأر بأعلى صوته مطالباً بمحاكمة طالبة صغيرة وصفها بالمنحرفة، وقد ضمن بعدها أصواتاً كافية ليترشح لدورة انتخابية ثانية. كما أن الروح العشائرية والطائفية والإثنية تلتهب مع نداءات التعاضد والتكاتف لتتويج أحد أفرادها بمنصب يفترض أن يكون ديمقراطياً بمرجعية ليبرالية.
بزوغ العقلية الفردية وانتشار الليبرالية الفكرية كانا سببين مهمين، ولكنهما غير كافيين. وهذا يطرح نقطة مهمة وهو من الصعب أن تكون هناك ديمقراطية من دون وجود حكم قوي للقانون. وهذا النوع من القانون القوي ازدهر في أوروبا وليس في أي مكان آخر بالعالم. ولكن لماذا؟ بزوغ القانون المدني مولود في الأصل من الشريعة الدينية، لكنه تعلمن مع صعود العقلية المستنيرة وتراجع العقلية الدينية، ولكنّ هناك سبباً مهماً أدى لازدهاره تاريخياً.
بسبب الصراع المستمر بين النبلاء والرأسماليين ورجال الدين، كان لا بد من اللجوء لقانون ينهي النزاع ويحفظ الحقوق للجميع. وهذا ما حدث، لإنهاء النزاع المنهك لا بد من الانصياع لقانون محايد يستمد قوته من التوازن بين هذه القوى. هكذا بدأ القانون وتطور مع الوقت حتى تحول القضاء إلى جهاز مستقل لا يمكن المساس به ويعبر عن قلب الحياة الديمقراطية. كيف يمكن ترسيخ ديمقراطية مع قانون يمكن تهشيمه بسهولة أو يمكن أن تتسلق عليه القوى الأصولية (النظام الإيراني) أو البوليسية الدموية (بشار الأسد). أوروبا نجحت بذلك، ولهذا سبقت الجميع بترسيخ ديمقراطية فعالة تصونها مؤسسة عدلية متينة.
ويقال إن صدفة الجغرافيا لعبت دوراً في ولادة ديمقراطية أوروبية غير متعسرة. الأنهار التي تشق أوروبا سهلت وجود ممالك مستقلة ومنعت وجود إمبراطور يزحف بجيشه على الجميع. على العكس منها الصين، أرض منبسطة سهلت على الجيش الجرار الاندفاع بمساحات شاسعة وإخماد حركات التمرد وبسط سلطة واحدة. ولهذا السبب بزغت الديمقراطية التعددية في أوروبا، وتأسست أول دولة قوية شمولية بالمعنى البيروقراطي الحديث في الصين.
ولكن الديمقراطية نشأت في أوروبا بسبب الازدهار الاقتصادي وتراكم الثروة بين أيدي الناس مع ظهور الرأسمالية. مع انشقاق الدين المسيحي وبزوغ فروع من البروتستانتية؛ مثل الكالفينية التي تعد النجاح في كسب المال بالدنيا علامة على رضا إلهي، فزاد المال وتوسعت التجارة. من الصعب تخيل أن أوروبا فقيرة معوزة بمقدورها تأسيس نظام ديمقراطي متعافٍ. هذا أيضاً يفسر نجاح الديمقراطية في أوروبا الغربية قبل الشرقية.
إسبانيا التي يقال إنها لم تكن لتنجح في ديمقراطيتها لولا الإصلاحات الاقتصادية التي حدثت في العقد الأخير من حكم الديكتاتور فرنكو، وأدت إلى تغييرات جذرية في البنية الاجتماعية عندما اضطر كثير من السكان للسفر والاستقرار في المدن، وكل ذلك أدى إلى ارتفاع النزعة الفردية.
لماذا نجحت الديمقراطية المفروضة على اليابان فرضاً؟ لأنها مدعومة ببنية اقتصادية متينة، مكنتها من الدخول سريعاً في العالم الحديث. ويمكن قول الشيء ذاته على كوريا الجنوبية. وبطريقة معاكسة يمكن فهم ديمقراطية العراق المترنحة منذ سنوات طويلة. معدلات الدخل المرتفعة مرتبطة بنجاح الديمقراطية ولا يجب أن ننخدع بالمداخيل المرتفعة المنعكسة من ثروات طبيعية.
قد تكون الأسباب المذكورة صحيحة أو خاطئة بالكامل، ولكن مؤكد أن الديمقراطية نظام معقد خصوصاً في بيئات غير مستعدة له، ومن الحكمة التعامل معه بواقعية حذرة بعيداً عن الأمنيات الطيبة والمواعظ المثالية التي تتبخر بالهواء مع الوقت لتكشف أن الواقع لم يتغير وربما أسوأ مما تخيلنا.