بقلم: ممدوح المهيني
في بداية عهد الرئيس ترمب لجأ لاستراتيجية ذكية في التعامل مع وسائل الإعلام الأميركية باعتبارها جزءاً من تحالف النخبة الفاسدة المتعفنة التي وعد بالقضاء عليها. ولهذا أطلق عليها الأخبار المزيفة ووصف الصحافيين بالفاسدين وقائمة طويلة من الألقاب، هدفت إلى الحط من قدرهم وضرب مصداقيتهم. كان يعرف ماذا يفعل على عكس ما يتوقع البعض الذين كانوا يرونه هائجاً لا يزن كلماته. إن هجومه ورده عليهم سيعززان الفكرة لدى قاعدته الشعبية بأنهم يحاربونه لأنه خارج المؤسسة التي يسعى للتخلص منها، وهم في المقابل يسعون لحمايتها وحماية مصالحهم ومصالح ملاكها الذين ينامون مع السياسيين في واشنطن على سرير واحد.
كانت استراتيجية بارعة إلى أن انحرفت وتجاوز ترمب الحد ودخل في ذهنية «البارانويا» ووهم الاستهداف ما جعله يرتكب الخطأ تلو الآخر حتى خرج مهزوماً من البيت الأبيض.
في تصوري أن وسائل الإعلام أوقعته بذكاء في الفخ بحيث كثفت من الهجمات عليه لدرجة أظهرته بصورة الرجل غير المتزن والمضر بصورة الرئاسة وغير المناسب ليحتل المنصب الأهم في البلاد، وهذا أحد العناصر التي ركزت عليها حملة بايدن وذلك من خلال تقويض صورته كرجل جدير بقيادة الأمة.
لقد اتخذت غالبية وسائل الإعلام الأميركية والغربية عموماً موقفاً مضاداً لترمب، وهدفها المعلن هو التخلص منه حتى قبل أن يكمل ولايته الأولى، ولكنه قدم لها في المقابل كل الأشياء التي تحلم بها للقيام بمهمتها.
لقد ظهرت عليه سريعاً الأعراض لشخص يشعر بتعرضه للاستهداف والاضطهاد، ودخل في مشاحنات طويلة مع صحافيين أضرت بصورته، وقد تعمد مراسل الـ«سي إن إن» جون أكوستا في المؤتمر الصحافي الشهير أن يجادله ويستفزه أمام ملايين المشاهدين وأدخله بخبث في نوبات غضب عارمة لا تليق بالرؤساء.
كان ترمب يوبخ الإعلاميين في المؤتمرات الصحافية ويعاملهم كالصبية في الفصول الدراسية، حيث يطلب منهم الجلوس وأن يغلقوا أفواههم ولكنه نسي أن هؤلاء الصحافيين مثل الضباع كانوا ينهشونه من دون أن يعلم وتركوه ينزف حتى النهاية.
وعندما ضرب الوباء الولايات المتحدة كان ترمب قد وصل إلى مرحلة متقدمة من «البارانويا» وارتكب أخطاء فادحة؛ دخل في صراع مع الفريق الطبي ورفض أن يرتدي الكمامة وأنكر حينها الحقائق العلمية بشكل مخيف في الوقت الذي كانت فيه أعداد الوفيات تتزايد، ودافعه الرئيسي أن وسائل الإعلام تريد استخدام وباء «كوفيد» لإزاحته وهذا ما دفعه بالاتجاه الآخر وهو إنكار الواقع واتهام الآخرين بالتجني عليه والانتقام منه، ولكنه دخل في حالة من التخبط والأوهام كانت أكثر تجلياتها إنكار نتائج الانتخابات والهجوم على الكونغرس في 6 يناير (كانون الثاني) 2021.
قصة ترمب معروفة ولكن إيلون ماسك يعيد السيناريو من جديد. لقد فعل إيلون الأمر الصحيح بفتح باب الحوار المقيد وأضعف من قبضة المتشددين من اليساريين على «تويتر» وكسر احتكار الدائرة الحديدية المغلقة التي تسيطر عليها كبريات الشركات العملاقة، ولكنه بدأ يرتكب الأخطاء نفسها بسبب الهجوم الصحافي عليه من خلال تبني والدفاع عن أفكار غريبة وغير منطقية مصدرها في العادة شخصيات مضطربة ومواقع غاطسة في التفكير المؤامراتي؛ مثل هجومه على العالم أنتوني فاوتشي الذي قاد الحرب على الوباء داخل الولايات المتحدة، ونشر رابطاً يدعي أن زوج نانسي بيلوسي الذي تعرض للضرب متورط في علاقة جنسية مع رجل. هذه مؤشرات على شخص يشعر بإحساس الضحية وواقع بالكامل تحت الشعور بالاضطهاد، ومحركه ليس فقط الهجوم المضاد للصحافة التي يرى أنها غير عادلة معه ولكنه أيضاً يقدم تويتر كبديل للصحافة والإعلام بشكل عام، حيث يرى أن تويتر المنصة العادلة وصوت الشعب وهدفها ترميم الحضارة الإنسانية.
وهذا غير صحيح، تويتر منصة ينشر فيها كل شيء بلا توثيق وإن كانت تنقل المعلومات بسرعة أكثر من الإعلام، إلا أنها بطبيعتها مكان مفتوح يلجأ إليه حتى المخادعون والمرضى لبث أفكارهم المهووسة... منصة لتبادل الأفكار ولكن ماسك الغاضب من الصحافة والذي يدخل في مشاحنات مع رجالها يضع قدميه على عتبة «البارانويا» ويعتقد أنه قادر ليس على تحدي الإعلام ومواجهته فحسب وبل نسفه بالكامل. لقد شاهدنا هذه القصة سابقاً ونعرف جيداً كيف ستكون نهايتها.