بقلم:حنا صالح
كان المشهد سوريالياً في قصر العدل. حاكم المصرف المركزي رياض سلامة، الذي أُسقط بيده بعد سقوط حججه حرصاً على «السيادة» لعدم المثول أمام القضاء الأوروبي، وجد نفسه بعد 3 عقود من «النجاحات» المزيفة أمام مضبطة محكمة. طيلة 10 ساعات، توزعت على يومين، واجه سيلاً من 200 سؤال حبكتها القاضية الفرنسية أود بوريسي، وجاءت على الأغلب على نحو اتهاميّ، فازداد توجسه من إمكانية قيام القضاء الفرنسي بالادعاء عليه واتهامه بينما بلدان أوروبية حجزت حساباته وأملاكه!
على الأرجح فكّر سلامة في الشهور الماضية بكثير من السيناريوهات، بينها تجديد ولايته وهو الذي قال فيه ميقاتي: ما فيك تغير ضابط أثناء المعركة! وقال فيه بري: إقالته سترفع صرف الدولار إلى 20 ألف ليرة، فأصبح سعر الصرف 130 ألفاً! المؤكد لم يَرد إلى ذهنه احتمال الوقوف أمام القضاء متهَماً ومستجوَباً. وبخلاف ترويج إعلامي بأنه «أذهل القضاء»، و«كان متماسكاً أجاب عن كل الأسئلة ودعم أجوبته بالوثائق والحجج»، تبين أنه كان شديد التوتر، طلب استراحة ودخن سيجاراً كوبياً، مستفيداً من دالته على القاضي اللبناني، كأن ما يشهده لبنان من انهيار ماليّ مخيف وسقوط أخلاقي لكل المتسلطين، يجري في بلدٍ آخر!
لم ينجح في الإيحاء بأنه يؤدي مجرد مشهدٍ في فيلم وثائقي، لأن الأسئلة حاصرته والاستجواب ضيَّق عليه الخناق، والليرة ليست بخير كما كان يزعم في ذريعة لاستقطاب الودائع. امتعض عندما أبلغته القاضية بوريسي في نهاية التحقيق أنه مدعوٌّ للمثول أمامها في باريس في مايو (أيار) المقبل. تذكّر أنه أمام القاضية التي لاحقت الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي وجرَّمته!
أدرك أن الوضع عصيب واتسعت مخاوفه من أن يكونوا قد تخلوا عنه، حيّد التحقيق الأوروبي لانعدام تأثيره عليه، وصبَّ غضبه على بعض الطبقة السياسية، التي تعرف أنه في مكانٍ ما «الصندوق الأسود» الذي يحوي أسرار وفبركات مالية الوزارات والإدارات والصناديق و«الرموز». تناقل العارفون في بيروت معطيات مفادها أنه أبلغ بعضهم: «أنا أعرف كيف أدافع عن نفسي أمام أي قضاء في العالم»!
ما يطلبه أكثر من المتاح من حماية السلطة الإجرائية له، بامتناعها عن تنحيته بانتظار المحاكمة، فأبقته على رأس المصرف المركزي يتلاعب بالنقد ولقمة اللبنانيين وحبة دوائهم، رغم أن «هيئة القضايا» في وزارة العدل، وهي محامية السلطة اللبنانية، ادّعت عليه بـ«السرقة وتبييض الأموال والتزوير والإثراء غير المشروع» وطلبت «توقيفه وحجز حساباته وأصوله ومنعه من التصرف بها وإحالته إلى الجنايات»!
أقلقته «الدعوة» إلى باريس، التي رفضها القاضي اللبناني شكلاً بذريعة وجود قرار يمنع سفره والحجة أنه ملاحَق بنفس القضية محلياً، فهدد بفضح شركائه، مندداً بما عدَّها فبركات قديمة لاتهامه واكبها «بعض السياسيين من أجل الشعبوية اعتقاداً منهم أن هذا الأمر يحميهم من الشبهات والاتهامات أو أنه يساعدهم على التطنيش على ماضيهم»... إذن تجاوز الموضوع الابتذال في الزعم أنهم استمعوا إليه كشاهد (...)، فسلّط الضوء على شركاء له، وقد تيقن أن الصورة التي ارتسمت أمامه أخذت وجهة محاكمة «عصبة أشرار» تشمل إلى جانب معاونيه، سياسيين ومصرفيين ومحظوظين نافذين كما أوردت «لوموند» الفرنسية.
لكن مهلاً، لقد انطلقت التحقيقات الأوروبية قبل سنة ونيف مع بروز شبهات بقضية شركة «فورتي»، التي تداولت نحو 330 مليون دولار، ويتردد الآن أن المبلغ الحقيقي أكثر من 500 مليون، وقد أُعيد فتح ملفها رغم أنها أُقفلت في العام 2016 إثر شبهات راودت بنك «HSBC» حول عمليات هذه الشركة ومصادر أموالها بعدما تبين أنْ لا أعمال أخرى لها حتى توقفها. لكنّ هذه الملاحقة تقتصر على الفترة الممتدة ما بين عامي 2001 و2016، والسؤال هو: ماذا كان هناك قبلها وماذا حصل بعدها؟
في العام 1993 جيءَ برياض سلامة إلى الحاكمية باتفاق واضح: نريد منك تثبيت سعر الصرف وتسديد عجز ميزان المدفوعات وتصرَّفْ كما تشاء! وتصرف سلامة، وبعد نحوٍ من 30 سنة تبدو الحصيلة الثقيلة: التقرير الذي نُشر في 20 الجاري لمناسبة «اليوم العالمي للسعادة»، أظهر تعاسةً تلفُّ لبنان، مع معدلٍ متدنٍّ جداً بلغ 3.2 نقطة مسبوقاً فقط من أفغانستان الطالبانية التي حققت معدل 8.1 بين 137 دولة! وهو أمر وصفته الاقتصادية لمياء المبيض بأنه يعكس «الشعور العارم بالتهديد لكل اللبنانيين، الخائفين على حاضرهم ومستقبلهم ومستقبل أطفالهم»! خصوصاً أنْ لا قعر لانهيار قيمة الليرة، مع فقدان السيطرة على سعر صرف الدولار، وانعدام القدرة على لجم حالة «التضخم المفرط» مع انعدام القيمة السوقية لليرة!
هذه الحصيلة هي نتيجة طبيعية لسياسات رسمية أُوكل إلى سلامة ابتداع أساليب تنفيذها، فأشرك معه «الكارتل المصرفي» الذي سرعان ما تحول أركانه إلى مرابين جَنَوا ثروات خيالية نتيجة المقامرة بالودائع! لتبلغ هذه المقامرة الذروة بعد انفجار ثورة «17 تشرين»، عندما أهدرت المنظومة المافياوية: السياسية المصرفية والميليشياوية، أكثر من 35 مليار دولار، وفرضت «هيركات» لا قانوني، لتذوب نحو 40 ملياراً من الودائع، عندما أُرغم المودع على سحب وديعته على سعر 15 ألف ليرة للدولار، ودفع فواتيره والضرائب وتكلفة معيشته على سعر السوق الموازية وهو اليوم نحو 130 ألف ليرة! وقد تأكد أن إدارة سلامة للنقد والسياسات التي اتبعها مصرف لبنان، وحوّلته إلى صرافٍ مضارب، هي المسؤولة عن رفع سعر الصرف في السوق الموازية، لأن الأولوية دعم سياسيين محظوظين وكارتلات احتكار ومصارف وتمويل دويلة «حزب الله»، مع التطنيش على دور «القرض الحسن»، المؤسسة المالية لـ«حزب الله»!
على أهمية قضية «فوري»، التي توجب ملاحقة قضائية شفافة ومحاكمة علنية، فإن القميص الوسخ أبعد بكثير من قضية «فوري» بالذات. فعندما يكشف منصور بطيش، وزير سابق للاقتصاد ومصرفي سابق، أن «الخسائر المالية تفوق 151 مليار دولار»(!!) تبدو هذه القضية (فوري) الشجرة التي يستحيل أن تحجب الغابة. شجرة فساد سلامة وأعوانه، لا تغطي كل جرائمه المالية، كما لا تحجب غابة الناهبين شركائه في السطو على مقدرات لبنان وجنى أعمار الناس وإرسال لبنان واللبنانيين إلى الجحيم. إن «فوري» زوبعة صغيرة في محيط الانهيار اللبناني، والمحاكمة موجبة لأنها التمهيد الضروري لفضح شركاء سلامة الكبار من كبار السياسيين والأمنيين والمصرفيين والقضاة والضباط والإداريين، إلى الدور الكبير لميليشيا «حزب الله» الذي يتزعم تشريع «قدسية الودائع» في حملة شعبوية، أبرز أهدافها حماية أموال التهريب والتبييض، ومنع التدقيق القضائي بالحسابات لتبيان مصادر الودائع الشرعية والنظيفة من سواها، وبالتالي الانتقال إلى مرحلة جديدة من المخطط الإجرامي القاضي بإرغام المجتمع على دفع ثمن هذه المنهبة بالسطو على أصول الدولة واحتياط الذهب لإهدائها إلى الناهبين!