بقلم:حنا صالح
تغيرت سوريا التي نعرفها، ليس فقط لوقوعها كلها تحت احتلال إقليمي ودولي، بل لتمزق نسيجها البشري. تحققت النبوءة التي تنسب إلى السيدة أنيسة مخلوف في بداية الثورة عندما قالت: تسلمنا سوريا 10 ملايين وسنعيدها إلى هذا العدد! نعم، لقد تم اقتلاع وتهجير نحو 60 في المائة من الشعب السوري، باتوا في المنافي أكثريتهم في مخيمات تفتقر للحد الأدنى من الشروط الإنسانية، وطال التهجير أعلى الكفاءات السورية التي راحت تنخرط في بعض المجتمعات الأوروبية خصوصاً!
ومع غياب سوريا التي عرفها الناس انطوى زمن الصمت والخوف. لكن الثورة لم تنجح في بلورة البديل السياسي فتمزقت بين بنادق للإيجار تحملها ميليشيات طائفية وكمٍّ من الولاءات الخارجية. وعموماً تبدلت الأهداف التي رفعت في بداية الثورة كلية. لم تعد هناك قوى جدية، لا أحزاب ولا تشكيلات معارضة، تطرح إقامة نظامٍ ديمقراطي بديل يوفر المساواة والعدالة للسوريين التواقين لاستعادة الحرية!
أما نظام الأسد الذي لم يعد يخيف أحداً، فإن «انتصاره» شكلي ومؤقت. إنه إلى مضيّه في التعسف والقمع، لأن في ذلك متلازمة حضوره، بات في موقع المراقب للدولة السورية التي تتقاسم القوى الخارجية السيطرة عليها. من جهة هناك إيران، ومعها ميليشياتها الطائفية المتعددة الجنسية، ولا يغير من الواقع شيئاً أن هذه القوى استدعاها نظام الأسد للدفاع عنه، فمنعت سقوطه لكنها أحكمت سيطرتها على الأجزاء الكبيرة من سوريا. ووفق ما كشفه الزميل إبراهيم حميدي، مؤخراً، في «الشرق الأوسط» - الأربعاء 28 ديسمبر (كانون الأول) 2022 - فإن طهران التي توالي تنفيذ مخطط «تشييع» واسع، تنحو على غرار موسكو فتبتز الأسد لانتزاع «تنازلات سيادية» تضمن للإيراني نفس حقوق المواطن السوري، أما عندما يرتكب جرماً فلا يحاكم إلا أمام القضاء الإيراني!
وتحتل تركيا أجزاء من الشمال السوري، ومعها ميليشيات متطرفة لا تعدو كونها أدوات لهذه السيطرة. غير أن اللافت يكمن في خطوات «التتريك» وربط الشمال اقتصادياً وتعليمياً بتركيا في مؤشر خطير على وجود نوايا اقتطاع أجزاء من الشمال، والذرائع مشغولة ومرتبطة بما تزعمه أنقرة حماية الداخل التركي! وتوازياً، يتحكم الوجود الأميركي بمناطق الشرق الغنية بالنفط والفوسفات، وعلى الأرض تسيطر قوى الأمر الواقع «قسد» التي حرمت تاريخياً من المساواة والاعتراف بها كجزء مكون من الشعب السوري!
وبغية اكتمال الصورة يفترض التوقف أمام الواجهات السورية المستمرة. فعلى ضفتي الانقسام والصراع المتعدد الأوجه والاقتتال الأهلي، تتصدر الواجهة قوى هامشية مستفيدة من الحرب تراهن على تأبيد الوضع الراهن. ميليشيات طائفية في الشمال منشغلة بالتهريب، تقابلها ميليشيات نظام الأسد من «الفرقة الرابعة» إلى «زعماء» زواريب ونقاط حدودية مع لبنان والأردن، بنوا أكبر كارتل مخدرات!
والنظام مستمر ليس استناداً إلى نفوذ شعبي أو قوة عسكرية، بل أساساً بفضل الدعم الروسي وحلفائه الآخرين، خاصة الإيرانيين.
ملائم هذا الوضع، ومريح لنظام الأسد، الذي تحرر من كلِّ مسؤولية حيال السوريين. ورغم الإيحاء بين الحين والآخر بأنه يقود دولة وشعباً، فالممارسة على أرض الواقع تؤكد أنه ليس معنياً لا بتأمين الرغيف ولا الدواء ولا النور... فالسوري المتروك في المنافي متروك داخل سوريا لمصيره!
طيلة السنوات الماضية تحول لبنان إلى منصة لتهريب «الكبتاغون» والسموم المختلفة التي استهدفت المجتمع الخليجي أساساً. وسهل ذلك تحكم ميليشيا «حزب الله» بالحدود المستباحة والمرفأ والمطار لكنه تسبب بعزل لبنان، الذي تعرض لضغوطٍ خارجية لمكافحة التهريب. ومراراً كان يتم الإعلان عن إحباط عمليات تهريب، وما من مرة كان يتم القبض على المهربين، لجهة وكأن المرتكبين أشباح! حتى إن «البروفسور» حسان دياب الذي أتى به «حزب الله» إلى رئاسة الحكومة الواجهة لتأديب «ثورة تشرين» رأى أنه لولا وجود طلب لما كان هذا التهريب، متهرباً من المسؤولية الملقاة على عاتق السلطة اللبنانية!
لكن العام المنصرم شهد مطاردات على طول الحدود الأردنية مع سوريا، وسقط قتلى وجرت اعتقالات طالت عشرات المهربين، وأحبطت عمليات تهريب لـ«الكبتاغون» والحشيشة عبر الأردن. وكشفت عمان عن سلسلة منظمة من المشاركين مع تجنيد طال أبناء العشائر والمناطق الحدودية، لنقل المخدرات عبر الأردن. وبدا واضحاً دور النظام، شراكة مع «حزب الله»، في تصنيع وترويج مخدرات تدر مليارات الدولارات على «عائلات المافيا» هذه! إذاك عرف المواطن اللبناني لماذا لم يتم اعتقال وتوقيف مهرب واحد؟ فمن يقف خلف التهريب طوّع الأمن والقانون والسلطة التي سلمت قرارها لمن ارتهن لبنان للممانعة، ليتبين أن العام المنصرم كرّس النشاط الاقتصادي الأهم للنظام السوري وهو تصنيع المخدرات وتهريبها!
كانت «الغارديان» البريطانية أول من كشف الدور المناط بمرفأ اللاذقية كنقطة انطلاقٍ لعمليات التهريب، وقالت إن «صناعة وتجارة المخدرات في مناطق النظام السوري لم تعد مجرد نشاطٍ إجرامي، بل أصبحت الركيزة التي يقوم عليها اقتصاد الأسد». فيما أوردت «نيويورك تايمز» أن «سوريا هي المركز العالمي لإنتاج الكبتاغون»، وأن الإشراف تؤمنه «الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد و(حزب الله) اللبناني»!
يبدو أن المشهد لن يستمر أقله بنفس الزخم، مع اعتبار نظام الأسد مولداً لمخاطر تهدد المجتمع الدولي، وتدمر الفئات الشابة خصوصاً، ما يتطلب مواجهة مختلفة. لذا يوم 23 ديسمبر الماضي، وقّع الرئيس الأميركي بايدن «قانون محاربة الكبتاغون» الذي يصنعه النظام السوري. ومنح القانون، الذي يشدد عقوبات «قانون قيصر»، وزارات الدفاع والخارجية والخزانة الأميركية كما إدارة مكافحة المخدرات، 6 أشهر لوضع استراتيجية «تفكيك شبكات الإنتاج والترويج والتهريب» كما «المتعاملين بالمواد الأولية للتصنيع» وكذلك «شبكات المتعاونين في الدول المستهدفة بالمخدرات»! إنها صفحة جديدة من شأنها أن تترك تداعيات إيجابية كبيرة في العالم وعلى المنطقة بداية!