بقلم- حنا صالح
رغم مبادرة قطر دعوة الخماسية إلى الاجتماع قريباً، وبروز معطيات عن زيارة ثانية للموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لو دريان، فإن الشغور الرئاسي في إجازة مفتوحة، مع التسليم العام بالاستعصاء، بعدما فرضت الجلسة الثانية عشرة تعادلاً سلبياً كرّس قدرة المتضادين على تعطيل النِّصاب!
نتائج جلسة 14 يونيو (حزيران) الانتخابية، التي قدمت الإقصاء على الانتخاب، كان يجب أن تفضي إلى مبادرات من شأنها كسر الاستعصاء. بالشكل طرح «حزب الله» الحوار، وبالمضمون ربطه بفرض التوافق على مرشحه سليمان فرنجية وبالحصول على ضمانات مكتوبة (...)، في حين غابت المبادرات كليةً عن قوى «معارضة» النظام، التي تقاطعت مع التيار العوني على ترشيح جهاد أزعور. وعلى العموم، ظهّرت التباينات في مواقف أطراف نظام المحاصصة الطائفي الغنائمي، انعدام أي رؤية مستقبلية عند قوى النظام المتنافسة قابلة للحياة.
هنا يجدر التوقف عند طروحات ترددها أوساط مؤيدة لـ«حزب الله»، تضغط لأخذ النقاش إلى مكانٍ آخر، يقفز فوق محورية الشغور الرئاسي، لطرح عنوان النظام السياسي المطلوب. طروحات تستبطن الذهاب إلى «مؤتمر تأسيسي» لطالما نادى به «الحزب»، ويراهن أنه بما يمتلك من فائض قوة، من خلال تغول الدويلة والسلاح اللاشرعي، يمكنه فرض إرادته على الآخرين بإدخال تعديلات جوهرية على اتفاق الطائف، مستفيداً من الخلل الوطني بموازين القوى.
الطريق الدستورية لقيام الدولة الحاضنة ليست رائده، رغم أن الدستور رسم طريق قيام الدولة المدنية الحديثة، التي تتسع لأحلام اللبنانيين وآمالهم، استناداً إلى دستور الطائف المدني، الذي حدّد سُبل تعديله في ضوء الممارسة. لكن القوى الطائفية الميليشيوية التي تسلطت على لبنان عطّلت الدستور وأقامت أخطر محاصصة طائفية بُنيت في كنف الوجود السوري ووفق أولوياته. لاحقاً، تجذرت هذه المحاصصة مع تسلط «حزب الله» ومن خلفه نظام ملالي إيران. تساكنت طويلاً قوى المحاصصة، «موالاة» النظام و«معارضته»، تشاركت مقاعد الحكومات المتعاقبة وتحاصصت الدولة، ومنذ أكثر من عقدين، من مؤتمر «باريس واحد» إلى مؤتمر «سيدر» قبل 6 سنوات، منعت هذه القوى متحدة الإصلاحات، مقدمةً مصالحها الخاصة الفئوية والطائفية... ورغم الإفقار المبرمج للبنان وشعبه، وانفجار الأزمة التي صنّفها البنك الدولي كواحدة من ثلاث أخطر أزمات في العالم آخر 150 سنة، يمتنع البرلمان حتى تاريخه عن إقرار الإصلاحات المطلوبة!
على الدوام استثمر «حزب الله» بالشغور في الرئاسة والفراغ في السلطة وراهن على إضعاف المؤسسات وتجويفها، للتمكن أكثر فأكثر من قضمها. تدرّج في امتلاك القرار، من احتكاره قرار السلم والحرب إلى إمساكه بالقرار السياسي والاقتصادي والمالي. التسوية المشينة عام 2016 التي أتت بمرشحه ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، منحته هيمنة كاملة على الرئاسة، غطت تجاوزاته وسياسته عزل البلد عن محيطه وتحويله إلى منصة ترويج للمخدرات وعدوان على العرب، وتقدم مخطط الاقتلاع والإلحاق قسراً بمحور الممانعة. فبات «الحزب» بعد عام 2016 الموجه الوحيد للسلطة والمرجع الوحيد لقرار البلد تاركاً للرئاسة كل بروتوكول الأوسمة والمنافع والمكاسب الفئوية بعدما باتت الوزارات والمؤسسات مجرد أسلاب!
مطالبة «حزب الله» بـ«ضمانات» مكتوبة وهو الذي أنشأ دولة موازية، متأتية من توجسه من أبعاد الرسائل التي عبّرت عنها الانتخابات الأخيرة. فوضع مشروعه للاستتباع على الطاولة، عندما تقدمت القوى التشرينية شعبياً كل القوى مع نحو 400 ألف صوت، فحرمته أكثريته النيابية ومنعت الأغلبية عن خصومه. فشكّلت النتائج أكبر خيباته، وهو يدرك أن إمساكه بالتمثيل الشيعي كاملاً، يبقى مؤقتاً وليس كافياً لتأمين الجدار المانع لأي استحقاقٍ لا يلبي رغباته!
واقعياً، تحول «حزب الله» إلى المرجعية الرئيسية منذ تسلم عون الرئاسة. هو الجهة المقررة في تشكيل الحكومات، وهو جهة القرار والتوجه. وبرزت هذه المرجعية بقوة بعد نهاية ولاية عون في 31 أكتوبر (تشرين الأول) 2022. من يومها أمسك الصلاحيات الفعلية، تاركاً لحكومة تصريف صلاحيات شكلية و«غمغمة» و«لعم»! بإشارة منه انعقدت الاجتماعات الحكومية، شرط موافقته المسبقة على جداول الأعمال. ومن دون مبالغة، فإن «حزب الله» الذي انتزع في الدوحة «الثلث المعطل» في أكبر طعنة للدستور، بات في السنوات الأخيرة ممثلاً بسوبر وزير في المالية يتشارك صلاحيات رئيس الحكومة. وقبل أيام وتحت ضغط استحقاق الشغور في حاكمية مصرف لبنان، بدا أن الثنائي نبيه بري ونجيب ميقاتي قاب قوسين من تعيين حاكم جديد، أو التمديد مجدداً ولاية رياض سلامة رغم أن بحقه مذكرتي توقيف دوليتين وهو ملاحق في الخارج والداخل بتهم النهب وتبييض الأموال... لكن بإشارة من «الضاحية الجنوبية» تراجع ميقاتي وفهم الجميع أن لـ«الحزب» الكلمة الأساسية باختيار الشخصيات الرئيسية في مؤسسات الدولة، وهو من يحدد التوقيت!
إن «الضمانات» التي عبّر عنها محمد رعد أمام لو دريان، هي مطالبة بتكريس مشروع التسلط، بتحويل الممارسة القائمة، إلى نص دستوري، فيتحول «حزب الله» إلى مرجع للدولة ووليها وقائدها. كلمة السر في ذلك توجسه من صناديق الاقتراع وتيقنه أن ما بعد ثورة «17 تشرين» ليس كما قبلها!
تكراراً يتأكد، أن الانتخابات الرئاسية ينبغي أن تكون للقوى التشرينية محطة تستكمل محطة الانتخابات البرلمانية، وما سبقها من محطات بعد «17 تشرين». محطة على طريق إبقاء المواطنين لاعبين سياسيين متحفزين لبلورة الأدوات الكفاحية للدفاع عن حقوقهم ومصالحهم، على طريق بناء بديل سياسي، باتت الكتلة التاريخية شرط قيامه. توجه لا بديل عنه لإنهاء الخلل الوطني؛ ما اضطر الشيخ سامي الجميل إلى التعبير عنه قبل أيام: «الوقت ضد مصلحتنا... يجب أن نخلق توازناً مع (حزب الله)؛ إذ لا يمكن أن نبقى رهينة وضحية»!