بقلم:حنا صالح
طيلة الأشهر التي تلت الانتخابات البرلمانية، يعيش لبنان في ظلِّ أمر عمليات سياسي وإعلامي مكثف: ماذا فعلت الثورة؟ لاحظوا سعر صرف الليرة آخذ بالانهيار والأسعار ترتفع، فأين الثورة؟ وكيف يقبل الثوار أن تعم العتمة البلد، وتتحول الحملة ضد نواب الثورة إلى «ترند» على وسائل التواصل لتطلق عليهم تسمية «نواب التعتير»، وتدبج مقالات حول «قلة خبرة»، وجهل «الأصول» البرلمانية على خلفية رفض التحول لمطايا في مشاريع القوى الطائفية للرئاسة، وصولاً إلى الترويج بأن انتخابهم غلطة لا ينبغي أن تتكرر...؟
توازياً، تتجاهل الحملات مسؤولية «حزب الله» كفريق ممسك بالسلطة ومحتكر لقرارها، ويتغاضى الجميع عن المسؤوليات الحكومية، ويُغضُّ النظر عن ممارسات نيابية فجة. أما «معارضة» النظام فتتم تبرئتها، ورفع المسؤولية عنها، وهي شريكة في نظام محاصصة أذلّ اللبنانيين، وأوصل البلد إلى الحضيض! وبينما المعمورة تضرب المثل بفساد السياسيين مبتكري النهب الذي طال الودائع، فمراكز التحريض لا تقلقها الطوابير على الوقود، ولا البحث في القمامة عما يسد رمق الجائعين، ولا الموت أمام المستشفيات... حتى إن فجور الحملات يكاد يدفع البعض إلى التحسر على «نعيم» و«بحبوحة» كانا قبل الثورة!
كل هذه الحملات أعادت إلى الأذهان جوانب مما تعرضت له الثورة قبل الانتخابات، بهاجس طي صفحتها وصرف الناس عنها بعد فشل مشاريع الاستيعاب والتطويع! إلى أن أطلّ حسن نصر الله قبل أيام غاضباً حانقاً مهدداً، وموجهاً للثورة التي وحّدت اللبنانيين، وابلاً من اتهامات العمالة والتخوين والتآمر والتبعية، وليصفها بـ«اللعنة»، وبأنها «الفوضى التي أتت بها الولايات المتحدة تحت عنوان (17 تشرين)»، ومتهماً التشرينيين بأنهم أرادوا الخراب، فلم «يتركوا مقاماً لرئيس الجمهورية، أو لرئيس مجلس النواب، أو لرئيس حكومة أو لعلماء! و(كلن يعني كلن) فاسدون، فيما القديسون هم زبائن السفارة الأميركية»!
اعتبر الأمين العام الأشهر، الذي تفاخر بقمع الثورة، أن ذاكرة اللبنانيين سمكية، فتجاهل فشل محاولات التدجين، عندما وصف الثورة يوم 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 بأنها «حراكٌ شعبي نحترمه، عفوي صادق عابر للطوائف وللمناطق، يعبر عن آلام الناس وأوجاعها وهمومها، وليس خاضعاً لأي حزب أو سفارة». كان مخطط الاستيعاب في ذروته، اعتماداً على «المجموعات» و«المنصات» و«الواجهات» المزروعة بهدف حرف المسار وتطويع الشارع وارتهان الثورة. وصف التجربة بالمميزة، وقال للثوار: «نقدركم، وما فعلتم عظيم جداً»! لكن فشل المخطط أخرج «الحزب» عن طوره؛ فمن هم هؤلاء الذين قالوا إن الكلمة الأخيرة ستكون للبنانيين؟! فمارس القمع وحرق الخيم وسعى لمصادرة الآراء. وبدأت الملاحقات وتركيب الملفات، وتسبب الإجرام باقتلاع عيون أكثر من 100 فتاة وشاب، إلى ألوف الإصابات التي طالت الأبرياء!
فاجأت التطورات اللاحقة منظومة التسلط، فبعدما فشلوا في التدجين، أذهلهم حجم التصويت العقابي ضد كل الطبقة السياسية، ولولا القانون الانتخابي المفصل على قياس الطائفيين، لكان عدد نواب الثورة ضعف العدد الحالي. الحصيلة، حرمت الثورة «حزب الله» من أكثريته النيابية، ومنعت «معارضة الموالاة» من نيل الأكثرية. يوم تسلم البرلمان الجديد مسؤولياته، انطلق نواب الثورة من المرفأ ليعلنوا أن زمن مصادرة الحقيقة، وحجب العدالة في جريمة تفجير بيروت، إلى أفول، وقبلها اضطر نبيه بري إلى إعادة الحياة لمبنى البرلمان بعدما صادر لسنوات قصر «الأونيسكو»، واضطرت السلطة لفتح وسط بيروت أمام الناس بإزالة جدران العار التي حجبت عن العيون مباني البرلمان والقصر الحكومي. وبدأت العراقيل تنتصب أمام محاصصات كانوا يعتقدون أنها أزلية، فاستعاد البرلمان ولجانه الكثير من الحيوية!
ومع تقدم البحث في ترسيم الحدود البحرية، فضح نواب الثورة حجم التنازل عن السيادة والثروة، وأعلن أحد رموز تشرين الدكتور عصام خليفة، اعتزامه الادعاء بالخيانة على رئيس الجمهورية والمعنيين الذين انتهكوا الدستور. ومع بدء الاستحقاق الرئاسي تقدم نواب التكتل بمذكرة إنقاذية للبننة الاستحقاق، وكسر المحاصصة، وتعطيل الصفقات مع الخارج. ومع ترشيح الدكتور خليفة، بدا الهدف تقديم رجل دولة للبنانيين، سيادي متمسك بالدستور، وإصلاحي يسعى لتحميل الناهبين وزر جرائمهم، حمايةً لحقوق المودعين، ولتأمين حماية اجتماعية. ولو تمّ الذهاب بالترشيح إلى الناس، لكان الفرق قد حدث باكتساب شرعية شعبية، استناداً إلى تبني نواب الثورة مشروع قيام «الكتلة التاريخية» العابرة للمناطق والطوائف، لخلق البديل السياسي عن منظومة النيترات التي غطت اختطاف «حزب الله» للدولة واقتلاع لبنان، كما أن أغلبيتها غطت جريمة تفجير المرفأ!
إنه نهج مغاير اعتبرته منظومة التسلط التي يقودها «حزب الله» من الكبائر. بأي حال يصح بالمستبدين ما قيل في ملوك البوربون: «لم يتعلموا شيئاً ولم ينسوا شيئاً»، لكن تسلطهم عندنا استمر لاتكائهم على بندقية الدويلة، فهالهم أن العناوين التشرينية برنامج متكامل من استعادة الدولة إلى قيام دولة القانون التي تنهي جلجلة اللبنانيين. لم يقلل ثوار تشرين من دور التدخلات الخارجية والارتباط بالخارج، وما يجري من جانب «حزب الله» لضم لبنان قسراً لمحور الممانعة، فربطوا بين استعادة السيادة والدستور والمؤسسات وإنهاء نظام المحاصصة، ورفضوا التمترس خلف شعار السيادة وحيداً دون المساءلة والمحاسبة عن الفساد وكل النهبة؛ لأنه سيكون أشبه بطلقة «خلبية» تتجاهل جوانب عميقة مما تعرض له لبنان وتسبب بإذلال أهله!
النهج التشريني الذي عبّرت عنه ومضات من نواب الثورة، رغم ما قيل ويقال عنهم، وقد يكون بعضه صحيحاً، كتحفظ بعضهم عن حق الناس مساءلتهم. ما يقلق منظومة النيترات تيقنها أن هواء تشرين النظيف لا يمكن مصادرته، خاصة الجدية في تعميق خطوات الخروج من الحرب الأهلية، والتمسك بالمصالحة الشعبية الحقيقية التي أنجزها الناس يوم اكتشف المتجاورون في المدن والقرى بعضهم، وتأكدوا أن معاناتهم وأوجاعهم متشابهة، فتوحدوا بوجه الاستبداد، وتيقنوا أن استعادة الحقوق تكون بإسقاط سلطة القهر لنظام المحاصصة، وسلطة القتل التي ارتهنت البلد للممانعة مقابل كراسي «حكم» مغروزة في صدور الناس.
ثورة «17 تشرين» هي بالتأكيد لعنة منظومة النيترات؛ فقد رفعت منذ البداية مطلب إعادة تكوين السلطة، ويقينها أن الممر حكومة مستقلة عن المتسلطين، تكون نتيجة كسر الاختلال الوطني بميزان القوى. لذا اعتبرت الثورة البرلمانيات محطة في هذا السياق، كما أن التعاطي مع الاستحقاق الرئاسي ينبغي أن يكون محطة متقدمة لبلورة «الكتلة التاريخية»، والبديل السياسي عن التسلط القائم على تغول الدويلة. إنه من سابع المستحيلات تحقيق توافقات فوقية تُتيح إنقاذاً ينهي اختطاف الدولة، ويمنع مخططات العفو عن الجرائم المالية والإفلات من العقاب، وإعادة إنتاج نظام المحاصصة. إنها لحظة العودة إلى الشارع ليعود الوضوح لمعركة الرئاسة، ويستعيد المواطن اللبناني الفعل في الحدث السياسي، ليصبح العنوان استعادة الجمهورية لتُستعاد الرئاسة كحصن دفاع عن اللبنانيين، وليست مطية لميليشيا تنفذ مشروع الهيمنة الخارجية على لبنان!