بقلم:حنا صالح
بينما يتسع الانهيار في لبنان، ويتأكد أنه في ظلِّ تسلط منظومة «4 آب» لا قعر لسقوط الليرة التي تنهار معها قدرة المواطنين على الاستمرار؛ تبرز حصيلة مخيفة من مرضى يحتضرون لعجزهم عن تأمين العلاج، وطلاب يهجرون قسراً مقاعد الدراسة، وتبتلع الهجرة الشباب والكفاءات، والتسول يتحول إلى ظاهرة عامة! بدا في لبنان نظام المحاصصة الغنائمي، أمام مشهد سوريالي: قضاءان متنافران، خارجي يلاحق بالعدالة فاسدين ارتكبوا جرائم مالية، وداخلي مدجن يلوح بقبضة بوليسية بوجه الأحرار أهالي ضحايا المرفأ!
وبعد الاطمئنان إلى تدجين القضاء، الذي رفع يده عن ملاحقة مرتكبي الجرائم المالية: من وضع اليد على المال العام إلى السطو على ودائع مليون ونصف المليون مواطن، أطلق الكارتل المصرفي، الشريك الأبرز في منهبة العصر، حملة دعائية ممجوجة لتبييض صفحة مصارف متوقفة عن الدفع، تقول لأصحاب الودائع المسروقة: «المصرف حدك»، و«المصارف رافعة للاقتصاد والإعمار»... إلى رشوة معلنة لشاشات مقابل الحجر على الأصوات التي تفضح المرتكبين... قابل ذلك نشاط نيابي محموم لتشريع العفو عن الجرائم المالية، وكل ما يتطلبه إسقاط المساءلة والمحاسبة، ويكرس قانون الإفلات من العقاب!
بدا المشهد هزلياً في قاعة محكمة التمييز. مصرفيون مشمولون بحمايات سياسية وقضائية وأمنية، تحولوا إلى مرابين قامروا بودائع تفوق الـ120 مليار دولار، يخضعون لتحقيقات طويلة أمام 3 بعثات قضائية أوروبية، تحقق في شبهة تبييض أموال وفساد جرت في أوروبا، إلى تحويلات تزيد على 330 مليون دولار يُزعم اختلاسها من مصرف لبنان، والمشتبه بهم رياض سلامة حاكم مصرف لبنان، وشقيقه رجا، وآخرون. وأفضى الاشتباه إلى قرارات بتجميد أموال وأصول عقارية كبيرة. بدا المصرفيون على حقيقتهم وفق توصيف البنك الدولي، جزء من «النخبة» التي نفذت أكبر عملية احتيال بونزي بدأت منذ العام 1993، فدمروا صناعة مصرفية عريقة وعجلوا في الانهيار العام، ما تسبب في تفجير ثورة «17 تشرين» 2019!
توازياً، كان لبنان يشهد حدثاً مدوياً. بعد 30 شهراً على تفجير المرفأ، وترميد ثلث العاصمة، وقتل 236 شخصاً، وجرح نحو الـ7 آلاف، المئات من بينهم أصيبوا بعاهات دائمة؛ قررت السلطة إكمال جريمة «4 آب»، فانقضت على أهالي الضحايا، وسطّرت مذكرات الاستدعاء، وأطلقت تحقيقات بوليسية بوجه كل من تجرأ ورفض محاولات الانقلاب على التحقيق، وأعلنوا من قلب قصر العدل أن العدالة ضمانة القضاء وأمل اللبنانيين، ليبدو الهدف الأبعد تطويع البلد والإمعان في كسره!
انتظر اللبنانيون تنفيذ مذكرات توقيف المدعى عليهم بـ«جناية القصد الاحتمالي بالقتل» في جريمة تفجير المرفأ وبيروت، لكن بعضهم أُعيد انتخابه كنائب! وأتاح قانون «الإفلات من العقاب» للمدعى عليهما علي حسن خليل وغازي زعيتر، بأن يشغلا مواقع في لجنة الإدارة والعدل النيابية! لكن مع تسطير دعوات للتحقيق شملت 12 من أهالي الضحايا، فإن الرسالة التي قرأها الناس بتمعنٍ، قالت إن قتلاً ثانياً ينتظر الضحايا والمرفأ والعاصمة. ليفجّر السلوك الأمني والقضائي ورفع اليد السياسية غضباً واسعاً، بعدما أظهرت اللامبالاة حيال جريمة العصر تعاطياً رسمياً يعتبرها حدثاً وقع في بلدٍ آخر! وأن الإبادة الجماعية طالت شعباً آخرَ! فيما تروما لحظة التفجير الهيولي الرهيب استقرت في ذاكرة مئات ألوف اللبنانيين! كانوا ينتظرون الإفراج عن التحقيق المجمد منذ 23 ديسمبر (كانون الأول) 2021، بعد أشهر على اقتحام المسؤول في «حزب الله» وفيق صفا العدلية، وتهديده بـ«قبع» قاضي التحقيق العدلي البيطار، فحدثت المفاجأة: المدعى عليهم يسرحون ويمرحون، والمطلوب توقيف المقتولين!
أليس لافتاً بقاء الجرائم الكبرى دون حسابٍ أو عقاب، أو حتى مجرد مساءلة؟ كما أن التحقيق معطل في جرائم قتلٍ متصلة بجريمة تفجير المرفأ؟ كما أنه بعد كرة الانهيارات وإرسال المواطنين إلى الجحيم، كما وعدوا، ما من متهم وراء القضبان، رغم أن المنهبة قتلت المستقبل، ورمّد تفجير المرفأ ثلث العاصمة؟
ستبقى الجرائم التي بدلت وقع حياة اللبنانيين دون حساب ولا مساءلة ما دام استمر تسلط نظام المحاصصة المولد للفساد والارتهان، ووحده التغيير الحقيقي الذي من شأنه استعادة المؤسسات والجمهورية يكسر مع الأزمات التي أدخلت لبنان في خريف مبكر. إنه خريف الانقلاب على الدستور وارتهان البلد لمستفيدين من أزماته، فمارسوا السلطة من خلال البدع والفتاوى، وفرضوا محاصصة الوزارات والمؤسسات، وحجبوا استقلالية سلطة القضاء، وعطلوا كل الآليات الطبيعية للنظام السياسي. وحدها ثورة تشرين، بين كل ثورات العقد الأخير، لم تطرح تغيير الدستور، بل تمسكت به وطالبت بالعودة إليه؛ لأن في تطبيقه إنهاء اختطاف الدولة واحتكار قرارها من جانب «حزب الله». أكثر من ذلك، فإن طروحاتها تتقاطع مع عنوان استكمال تطبيق «الطائف»؛ لأن في ذلك إفساحاً في المجال أمام قيام الدولة الطبيعية الحديثة، بديل الدولة – المزرعة!
طويل هو المسار، لكن الطرح التشريني التغييري يكتسب أهميته عندما يتبين أن رائد الطبقة السياسية إعادة تأهيل نظام المحاصصة وتجديد التقاسم بين أطرافها. إن تجربة ما بعد «الطائف»، وتجربة ما بعد التسوية الرئاسية المشينة، وما تدل عليه ممارسات 3 سنوات ونيف بعد ثورة تشرين؛ تقدم الدليل تلو الدليل أن «معارضة» النظام و«موالاته» وكل منظومة «4 آب»، متحدة في منع التجديد والانفتاح، متمسكة بـ«الحصانات» كما بـ«الإفلات من العقاب»، أولويتها مصالحها الضيقة ومكاسبها على حساب مصالح البلد وحقوق أهله. لكل ما تقدم لا تغيير ممكن من داخل المنظومة، ومتعذر معها، والنتائج كارثية لأي مشاركة معها. إنهم شركاء في نهجٍ مسؤول عن وضع لبنان أمام المشروع الأخطر: الدولة الدينية التي يعمل لها «حزب الله»! مشروع مستحيل، لكنه عنوان ابتزاز خطير؛ لكونه يهدد بالفتنة وفتح البلد أمام شتى التدخلات!
لا إنقاذ إلّا بالتغيير، لكن المسألة أعقد من تخيل انتقال على طريقة «كوني فكانت»! أهم من الانتخاب المُلحّ لرئيس للجمهورية، استعادة الدولة المخطوفة وإحياء المؤسسات، حتى تكون رئاسة مرجعية للبنانيين. لم تسقط الطبقة المتسلطة المرتهنة إثر ثورة تشرين، وهي مستمرة نتيجة حماية بندقية «حزب الله»، كما استمرت ثانية بعد تفجير المرفأ بفعل حمايات خارجية، ولن تترك الساحة لجهات بوسعها اتخاذ التدابير لكبح الانهيار وإطلاق المساءلة والمحاسبة بوصفهما حجر الزاوية في كل عملية استرجاع البلد! المطلوب البنية النقيضة والبديلة للبنية الفوقية المهيمنة! والثابت أن إنجاز هذه المهمة هو حجر الرحى، والمطلوب بلورة شروطها التنظيمية والبرنامجية المرحلية، وبات كثيرون يلتقون حول العنوان: «الكتلة التاريخية» العابرة للمناطق والطوائف، الأقرب إلى النسيج الشعبي الذي عبّرت عنه الثورة، والمؤهلة لرفع قيمها وحمل أهدافها، وفرز البديل السياسي الذي يمكن أن يقود مرحلة انتقالية تطول أو تقصر تبعاً لمتغيرات الوضع اللبناني!