بقلم - جمعة بوكليب
العنوانُ أعلاه، عنوانُ رواية كتبها ونشرها الكاتب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني. في تلك الرواية يلجأ الراحل كنفاني في كتابتها إلى أسلوب مميز، بأن يبدأ من الزمن الحاضر ويعود إلى الماضي، من خلال بطل الرواية، وهو يعبر الصحراء مشياً، تحت وهج شمس حارقة، في طريقه من مدينة غزة قاصداً الوصول إلى أمّه في الأردن.
بعد نكبة إعصار «دانيال» في مناطق شرق ليبيا، في سبتمبر (أيلول) 2023، من الممكن، رغم بُعد المسافة الزمنية، استعارة أسلوب غسان كنفاني المستخدم في تلك الرواية في التعامل مع الحدث الليبي.
الآن، عقب هدوء العاصفة، ذاب الثلج وبان المرج، وتأكد بما لا يدع مجالاً لشك أن كارثة إعصار «دانيال» فاقت كل التوقعات. الأرقام الحالية تتحدث عن قرابة 20 ألف ضحية، بين موتى ومفقودين، ناهيك عن الخسائر التي حاقت بالعمران والممتلكات.
لم يكن ممكناً تفادي الكارثة، لكن كان من الممكن جداً تخفيف الخسائر البشرية، لو قامت الجهات المسؤولة بمهامها الموكلة إليها. فقد تبين من خلال تقرير صادر عن الرقابة الإدارية عام 2021، تقاعس المسؤولين في وزارة الموارد المائية عن القيام بأعمال صيانة السدّين المنهارين (سد درنة وسد أبو منصور) بعد تسلم الميزانية المخصصة. كما كشفت الحقائق أن العاصفة «دانيال»، بعد الدمار الذي أحدثته في اليونان وبلغاريا وتركيا، كانت في طريقها إلى جنوب البحر المتوسط، وتحديداً إلى ليبيا، خصوصاً الجزء الشرقي منها. وكان الأولى بالمسؤولين أخذ دواعي الحيطة والحذر، وإعلان حالة الطوارئ في المستشفيات وفي مراكز الأمن والإطفاء والإنقاذ المدني، وإخلاء المدينة، وإن لم يكن ممكناً ذلك، فعلى الأقل إعداد مراكز لجوء مؤقتة لنقل المواطنين، من الأماكن الأكثر احتمالاً للتعرض للخطر، خصوصاً القريبة من مجرى الوادي في مدينة درنة، وغيرها من المناطق. وقبلها تبيّن أيضاً أنه عُقد مؤتمر في مدينة درنة حول السدود المائية يوم 9 سبتمبر الحالي، أي قبل يومين من الكارثة، وبحضور عميد بلدية درنة، وتم خلاله التعرض إلى الحالة السيئة للسدّين. أي أن الجميع كانوا على علم بوضعية السدّين السيئة.
وكانت هناك تحذيرات متكررة، من أهل الاختصاص، وُجّهت إلى الأجهزة المسؤولة عن صيانة وحفظ السدّين، منذ عام 2011، عن الحالة السيئة لهما والمسارعة بعملية الصيانة. لكن تلك التحذيرات لم تجد آذاناً مصغية. وأن المسؤولين لم يولوها اهتماماً. وحين وقعت الواقعة، كان على المواطنين، كالعادة، دفع الثمن.
التقاعس والإهمال في صيانة السدّين، أدّيا إلى حالة غضب شعبي هائل، وارتفعت أصوات عديدة تطالب بالتحقيق في الأمر ومعاقبة المسؤولين. رئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي، طلب من المدّعي العام البدء في التحقيق، وكشف المسؤولين عن الكارثة. لكن الأمر، في رأيي، لا يخرج عن نطاق محاولة امتصاص الغضب الشعبي العارم في كل ليبيا، وليس في المناطق المنكوبة فقط. إذ لم يسبق مطلقاً التحقيق مع مَن أشعلوا الحروب، وتسببوا في كوارث ما زالت تعاني منها البلاد إلى اليوم. وهذا يقود إلى حقيقة أن حدوث تحقيق وتقديم مسؤولين إلى القضاء لا يدخل، واقعياً وفعلياً، في دائرة التوقع. إذ ليس سرّاً أن القانون في ليبيا وُضع على الأرفف، منذ فبراير (شباط) 2011، وترك الأمر للسلاح لحسم النزاعات.
العديد من وسائل الإعلام الليبية والعربية والأجنبية، بثّت مقابلات مع مواطنين من المناطق المتضررة. أبانوا فيها حقائق قد لا تصدق. وعلى سبيل المثال، أن مدينة البيضاء، وهي من أكبر المدن بعد مدينة بنغازي في شرق البلاد، وكانت في أيام المملكة العاصمة الإدارية لليبيا، لا توجد بها سوى سيارتي إسعاف! وفي مدينة درنة لا توجد سوى سيارة إسعاف واحدة، ولا توجد بها سيارة مطافئ، وبها مستشفى واحد صغير وفقير جداً في الأجهزة والأدوية. وهو أمر خارج نطاق التصديق في بلاد تعيش فوق بحيرة نفط.
وهذا يعني أن سكان البلدات والقرى والمدن، التي تعرضت للدمار دفعوا الثمن، وسيواصلون دفع أثمان أخرى مكلفة. وفي مقدمتها أن نسبة كبيرة منهم ستقع في فخ النزوح والتشرد والفقر بعد دمار بيوتهم، وانقطاع مصادر أرزاقهم. وأنهم، لسنوات مقبلة أخرى لا يعرف عددها إلا الله، سيعيشون نازحين مشردين في بلداتهم أو خارجها. والأسوأ، أن طبقة جديدة من المنتفعين من الكارثة، مثل فئة المنتفعين من الحرب، من المتوقع جداً أن تطفو قريباً على السطح، سعياً إلى نهب الميزانيات والمعونات المالية الدولية، التي ستخصص لعادة إعمار المناطق المتضررة، وتعويض المتضررين. ومن المرجح أن يكون المسؤولون المتسببون في الكارثة على رأس قائمة المنتفعين. وفي فترة زمنية قصيرة مقبلة، سوف تصبح البيئة مواتية أكثر من ذي قبل لعودة التطرف الديني والإرهاب ثانية. وتصير الأرض ممهدة وجاهزة لعودة «داعش» وأخواتها إلى سابق قواعدها، بعد توفر البيئة المناسبة اجتماعياً واقتصادياً ونفسياً، لتجنيد كوادر جديدة من شباب حُرموا من فرصة العيش الكريم في بلادهم.