بقلم - داود الفرحان
فجأة وبلا مقدمات ولا أسباب، اخترقت المجال السويدي يوم الأربعاء الماضي 4 مقاتلات روسية؛ اثنتان منها طراز «SU 27» واثنتان «SU 24»، نقلاً عن بيان للقوات المسلحة السويدية. صحيح أن السويد لم تعلن حالة الطوارئ، ولا استنفرت قواتها المسلحة، إلا أنها وزعت على شعبها كتيباً صغيراً يتضمن نصائح وتعليمات وإرشادات للحماية الشخصية في حال وصلت الحرب الأوكرانية إلى أرضها على بعد 1562 كلم من موسكو إلى استوكهولم.
قد يقول أحد: ما علاقة السويد بأوكرانيا أو روسيا، لتمتد الحرب الروسية إلى هذا البلد النائي والمحايد وشبه المتجمد على ساحل بحر البلطيق؟ إذا كنت سائحاً فنصائح مكاتب السفر أن تستخدم القطار المريح من موسكو إلى هلسنكي عاصمة فنلندا، ومنها بالعبّارة إلى استوكهولم. وهذه النصيحة من وحي الطائرات الروسية الأربع التي اخترقت الأجواء السويدية على إيقاع الحرب المجنونة. وقالت القيادة المسلحة السويدية إنها تأخذ الاختراق على محمل الجد، وهو «عمل غير قانوني وغير مسؤول من جانب روسيا». ووصف كارل يوهان إدستروم قائد القوات الجوية السويدية، الحادث، بأنه «أمر خطير للغاية».
عنوان الكتيب الذي تم توزيعه على سكان السويد «عند حدوث أزمة أو نشوب حرب». والتفاصيل المهمة التي تصلح في أي دولة معرضة للعدوان هي: «يحب أن نكون قادرين على مواجهة مختلف أنواع الاعتداءات على أنظمة تقنية المعلومات بواسطة تزييفها من قبل المعتدي، وكذلك تخريب البنية التحتية مثل الطرق والجسور والمطارات والسكك الحديدية وتعطيل وسائل النقل ما يتسبب في نقص المواد الغذائية والسلع المهمة الأخرى، وتمديدات الكهرباء ومحطات الطاقة النووية، بالإضافة إلى الاعتداءات الإرهابية التي تصيب المدنيين، ومحاولات التأثير على صناع القرار أو الرأي العام، والأخطر من ذلك الهجمات العسكرية كالغارات الجوية أو الصاروخية». ويقف المرء أمام شعار «المقاومة ضرورية» الذي حفظناه عن ظهر قلب في انتصاراتنا وهزائمنا.
وتناشد التعليمات السكان رفع مستوى التأهب إذا قررت السويد ذلك من أجل «الدفاع الشامل عن البلد ومواجهة المعتدي». وفي حالات الطوارئ تذيع الحكومة بلاغات تحذير إلى المواطنين، سواء عن الحرائق أو الانفجارات أو عمليات الإنقاذ أو القصف الجوي أو انهيار المباني. «وعندما تسمع هذه التحذيرات التزم منزلك واغلق النوافذ والأبواب وفتحات التهوية». وينبه الكتيب إلى أن الغاية من الملاجئ هي توفير الحماية للسكان في زمن الحرب، ولذلك تم وضع لوحات تحمل إشارات إلى الملاجئ القريبة والأماكن التي توفر حماية كافية كمحطات قطارات الأنفاق.
وهناك ثلاثة أنواع من الإنذارات؛ الأول إنذار التأهب وهو إشارة صوتية لمدة 30 ثانية، يليها انقطاع 15 ثانية، ثم يتم تكرارها حسب الحاجة. والثاني إنذار الطيران المعادي عبر إشارة صوتية متكررة لمدة دقيقة واحدة. وحين يزول الخطر تنطلق إشارة صوتية غير متقطعة لمدة 30 ثانية. وفي حالة اضطرار السكان إلى مغادرة بيوتهم فوراً لوجود خطر وشيك يجب عليهم الاستعداد لمغادرة المسكن واصطحاب أهم الأشياء من ملابس دافئة وبعض الطعام والشراب ووثائق الهويات الشخصية. إنها قراءة مبكرة لحرب لم تبدأ بعد.
أحياناً يعيد التاريخ نفسه بالمقلوب؛ فقد غزت السويد روسيا في عهد ملك السويد تشارلز الثاني عشر خلال الحرب الشمالية العظمى في عام 1708 بين السويد وروسيا وبولندا والدنمارك، وانتهت الحرب بهزيمة السويد في عام 1709، إلا أن السويد ظلت مصدر تهديد عسكري لروسيا عدة سنوات بعد الحرب، وكانت تحت حماية العثمانيين في سنوات أمجادهم. وبسبب ظروف الحرب الأوكرانية عمدت إدارات الأزمات في معظم الدول الأوروبية لاتخاذ احتياطات لمواجهة أكبر أزمة إنسانية منذ عدة سنوات بعد توقعات بنزوح سبعة ملايين أوكراني، لكن من الصعب وضع تقديرات دقيقة في هذا المجال بسبب تصعيد الغزو الروسي والقصف الشديد.
هذا الكتيب الصغير والمهم يعطينا درساً عن الفرق بين التدابير الوقائية لحماية السكان والتدابير العقابية لإيذاء السكان. فبينما يفكر الرئيس الروسي بوتين في قصف بنى أوكرانيا التحتية والجسور والمستشفيات والمطارات والتلفزيون والمباني والمقابر، وربما الجامعات والمسارح ودور السينما والأسواق والمصانع، يطلب الرئيس الأوكراني زيلينسكي من الجانب الروسي فتح ممرات في المدن لخروج المدنيين من جحيم الصواريخ والقنابل وإنقاذ النساء والأطفال وكبار السن، وهو أجرى مفاوضات فعلاً مع الجانب الروسي ليس فيها غير ملف «الممرات الآمنة»، بعد أن رفض بوتين وقف إطلاق النار. بل إن بعض جنود الدبابات الروسية «يلهون» بسحق السيارات المدنية بمن فيها، تماماً كما فعل الجنود الأميركيون بسيارات المدنيين العراقيين في حرب 2003 في بغداد وأمام الصحافيين الأجانب الذين كانوا يقيمون في فندقين شهيرين يطلان على نهر دجلة والقصر الجمهوري. وكرر ذلك مرتزقة شركة «بلاك ووتر» سيئة الصيت المتعاقدة مع وكالة المخابرات المركزية الأميركية. روسيا بوتين ليست أسوأ من أميركا جورج بوش الابن، في التعامل مع المدنيين؛ تلك في أوكرانيا وهذه في العراق. وروسيا ليست أسوأ من إسرائيل في استهداف المدنيين؛ تلك في أوكرانيا وهذه في فلسطين المحتلة.
ما الذي حدث في موسكو؟ كيف تكون القوات الروسية البادئة بحرب غير متكافئة ضد أوكرانيا؟ كيف استطاع الرئيس القوي الشخصية أن ينطق جملته الشهيرة قبل أيام عن وضع الردع النووي الروسي في حالة تأهب؟ ويزيد على ذلك قصف موقع زابوريجيه الذي يضم أكبر محطة للطاقة النووية في العالم.
هل نسيت روسيا أنها واحدة من أهم الحضارات الثقافية القائمة طوال القرون الأخيرة؟ متحف الأرميتاج في مدينة سانت بطرسبورغ. المتحف الوطني الروسي للفنون وفيه 130 ألف لوحة. متحف بوشكين للفنون. عمالقة الروايات تولستوي ودوستويفسكي وغوركي وتشيخوف وباسترناك. تاريخ القياصرة والأباطرة الروس. السيرك الروسي ومدربو الدببة. القمر الصناعي وغاغارين أول رائد فضاء روسي. الكلبة الفضائية لايكا. مسرح فرقة باليه البولشوي، حيث أفضل عروض الأوبرا والباليه. هل نسي بوتين كل هذه الحضارة العريقة ليمسحها في حرب نووية عالمية لا ينتصر فيها أحد؟
إذا استعنا برواية «الجريمة والعقاب»، وهي إحدى أشهر ما أنتجه الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي في القرن التاسع عشر، فلن نجد جريمة بحجم قصف مفاعل تشرنوبل الأوكراني من قبل القوات الروسية. هذا التفجير هو بخطورة القنبلتين الذريتين اللتين قَصف بهما الرئيس الأميركي الأسبق هاري ترومان، مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين في نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945.
بكل يسر اعتمد بوتين الحل الفردي لكل الأزمات، المقتصر على اللحظة. إنه فعل مثلما فعل بطل رواية «الجريمة والعقاب» يَنصب نفسه فاصلاً بين الحق والباطل، لأنه يظن أن الصدام يكشف الأقوياء أمام الضعفاء. المستبدون فقط يتوهمون ذلك. نعم يمكن فلسفة الحرب مثلما يمكن فلسفة الجريمة.