بقلم - داود الفرحان
يقول المثل العربي المعاصر: «التجربة أكبر برهان». وقد خاضت روسيا الحروب في تاريخها الطويل مراراً وتكراراً. وفعلت الأمر نفسه فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة واليابان وكوريا وإسبانيا والبرتغال وبلجيكا وإيطاليا وفلسطين والسودان والعراق وإيران ومصر وسوريا وأفغانستان والأرجنتين وكوبا والهند وباكستان ودول أفريقية. وجربت هذه الدول قرقعة الأسلحة ودوي الانفجارات وإفلاس الاقتصاد ومواكب الجنازات ومجاميع الأسرى، على موسيقى وأناشيد الحماس وطلب الاستشهاد. كان أصعب قرار في هذه الحروب هو نهاياتها. خطاب أو خطابان وتبدأ الحرب؛ لكن ألف خطاب لا ينهيها.
في حرب أوكرانيا، مصائر ملايين البشر يقررها شخص واحد، في ساعة خارج التاريخ، لتدور مطحنة الموت بلا رحمة. ولا أحد يعرف كيف ومتى ستتوقف عن الدوران. لقد فعلها فلاديمير بوتين يوم الخميس الماضي، 24 فبراير (شباط) 2022، وشن حربه على جارته أوكرانيا. ولم يستجب لأي نداء لبذل جهود مضاعفة بهدف حل المشكلات الحدودية، من دون اللجوء إلى الحرب. وكانت حجته أن الغرب لا يراعي مصالح روسيا الاستراتيجية، وتحفظاتها على انضمام أوكرانيا إلى حلف «الناتو» مثل بعض الدول الأخرى التي هربت مما كان يسمى «الستار الحديدي» بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
واتهمت موسكو واشنطن والدول الأوروبية بأنها تقترب من حدود روسيا الجغرافية، بتحالفاتها السياسية والعسكرية والنووية، وتتجاوز الخط الأحمر الذي سبق للرئيس الروسي بوتين أن نبه إلى أنه لن يسمح باقتراب حلف «الناتو» من حدود بلاده الجغرافية، وهذه مسألة فيها نظر.
الآن وقد دقت ساعة الحرب، لماذا لم تتعاون أوروبا والولايات المتحدة مع أوكرانيا وروسيا لإعلان هذه الدولة بلداً محايداً أسوة بسويسرا؟
تأسست سويسرا في عام 1848 من تحالف كانتونات (مقاطعات) تحت تسمية «الاتحاد السويسري». وكان السويسريون في العصور الوسطى بعيدين عن الحياد والسلام. وتقول الموسوعات الجغرافية إن أكثر من مليون مرتزق سويسري حاربوا في ظروف زمنية مختلفة ضمن جيوش أجنبية في العصور الوسطى؛ لكن أحفادهم عادوا إلى بلدهم بعد قيام الاتحاد السويسري المحايد، إثر حرب انتصرت فيها فرنسا على جيش سويسري ضعيف في عام 1515. وبعد الحرب الباردة اعتمدت سويسرا حيادها في السياسة الدولية بشكل رسمي، وانصرفت إلى المشاركات الإنسانية والمساعي الدبلوماسية لحل الأزمات الدولية، وتحولت تدريجياً إلى «بيت مال العالم».
وحين طلبت سويسرا الانضمام إلى منظمة الأمم المتحدة، متأخرة عن غيرها من الدول العريقة، في عام 2002، اشترطت أن تظل محايدة حتى داخل المنظمة. ومن الغريب أن هذا البلد الجميل الملهم من الدول المصنعة للأسلحة، وتعتمد عليها كمصدر مهم من صادراتها!
العالم بحاجة ماسة إلى دول محايدة في القارات الخمس لضبط إيقاع السلام، ورفض قرع طبول الحروب. وهو بحاجة أكثر إلى التزام الدول العظمى بعدم خدش حياد هذه الدول؛ علماً بأن أكثرية دول حركة عدم الانحياز، أو ما كان يسمى في الخمسينات والستينات «الحياد الإيجابي» تخوض حروباً أهلية أو حدودية، وأحياناً حروباً دولية، مثل العراق وليبيا وإيران والهند وباكستان وتركيا وقبرص ويوغوسلافيا وانشطارها، وبعض هذه الدول دخلت حروباً دفاعاً عن نفسها ومصالحها. ولو كانت أوكرانيا عملت على تجنيب شعبها مآسي الحرب لما حدث هذا التطور الدامي من قبل روسيا أو حلف «الناتو».
لن تغيب عن ذاكرة الشعوب صور آلاف السيارات وهي تهرب بالأوكرانيين من العاصمة كييف إلى مدن بعيدة، أو حتى إلى خارج الحدود، لتجنب القصف الجوي والمدفعي الروسي. وأنا حين أشير إلى هذا المشهد المأساوي، أتذكر كيف أن قسماً كبيراً من سكان العاصمة العراقية بغداد تركوا منازلهم لاجئين، إلى المحافظات البعيدة نسبياً عن القصف الأميركي العدواني في حربي 1991 و2003، وكان اللجوء الأكبر إلى خارج العراق بعد الاحتلال الأميركي والتدخل الإيراني.
وعلى ذكر الغارات الأميركية على العراق بعد الاحتلال الأميركي، ما أسهل على البيت الأبيض أن يتخذ قرارات بقصف العراق أو سوريا أو ليبيا، وما أصعب أن يتخذ قراراً باستخدام السلاح ضد روسيا، مثلاً، أو ضد الحوثيين الموالين لإيران في اليمن، أو حزب نصر الله في لبنان، أو الميليشيات الإيرانية في العراق التي تقصف السفارة الأميركية والقواعد الأميركية.
والحياد أنواع، منها حياد النمسا واليابان المثبت في دستور كلا البلدين؛ لكن هناك بعض الاختلاف في التفاصيل؛ إذ ليس من الضروري أن تستضيف النمسا أي قواعد أجنبية، وغير مسموح لليابان بالمشاركة في الحروب الخارجية. إلا أن اليابان أرسلت إلى العراق في حرب 2003 مساعدة لوجستية، مثل المؤن والمياه والوقود والذخيرة ومعدات عسكرية لقوات التحالف، مع وحدة عسكرية صغيرة، ولذلك أطلقوا عليها «مؤسسة خيرية»! وقد رفض الشعب الياباني بنسبة 78 في المائة هذه المشاركة؛ لأن حرب الرئيس جورج بوش كانت تفتقر إلى تغطية دولية من الأمم المتحدة. وقيل وقتها إن اليابان استغلت الإهانة التي وجهها صحافي عراقي إلى بوش خلال إحدى زياراته إلى بغداد، وبادرت إلى سحب قواتها القليلة العدد لإرضاء الشعب الياباني.
يقول أحد الباحثين في المسألة الحيادية، إن «الدولة الحيادية هي الصفة القانونية لبلد يمتنع عن المشاركة في أي حرب أو نزاع بين البلدان الأخرى». والدول الحيادية المعترف بها في الوقت الحاضر، هي آيرلندا وتركمانستان والسويد وسويسرا وفنلندا وكوستاريكا والنمسا. وهناك دول تدعي الحياد من دون اعتراف دولي، مثل كمبوديا ومولدوفا. وهناك دول أخرى رُفعت منها الصفة بسبب انضمامها إلى أحلاف عسكرية، مثل بلجيكا ولوكسمبورغ ولاوس. أما هولندا فقد فرضت الحياد على نفسها فيما يختص بالنزاعات بين الدول الأوروبية.
ما يشجع أوكرانيا على الانضمام إلى الدول المحايدة، أن تقدم ضماناً رسمياً تكفله دول أخرى. وقد ظهر مؤخراً مصطلح «الحياد المسلح»، وهو يُستخدم في السياسة الدولية للتعبير عن موقف دولة أو مجموعة دول لا تتحالف مع أي من طرفي الحرب. كما يشترط في الدولة المحايدة أن تكون خلال أي حرب مستعدة لمقاومة أي عدوان ناجم عن الأطراف المتحاربة، وقادرة على الحفاظ على حيادها. ومن الدول المحايدة المسلحة سويسرا والسويد كما قلنا، وقد حافظتا على هذه الصفة خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية. وكذلك كوستاريكا وليختنشتاين.
باختصار شديد، تُعرّف الأمم المتحدة الحياد بأنه «الوضع القانوني الناجم عن امتناع دولة عن المشاركة في حرب مع دول أخرى، والحفاظ على موقف الحياد تجاه المتحاربين، واعتراف المتحاربين بهذا الامتناع وعدم التحيز». وقد حددت المنظمة الدولية يوم 12 ديسمبر (كانون الأول) يوماً دولياً للحياد.
على أي حال، وعلى الرغم مما حدث خلال الأحداث الأخيرة في أوكرانيا، فإن المجال مفتوح أمامها لتقديم طلب إلى المنظمة الدولية للانضمام إلى مجموعة الدول المحايدة، وإنقاذ الشعب الأوكراني من ويلات الحروب. وإسقاط مسوغات الرئيس الروسي التي اعتبرها كافية لشن حرب، في أخطر أزمة كادت تصبح نووية منذ الحرب العالمية الثانية.
وللتاريخ، فإن جمهورية أوكرانيا شاركت في احتلال العراق عام 2003، وساهمت في قتل مدنيين أبرياء وترويع الآمنين في بيوتهم. وكان الجنرال الأميركي المتقاعد مارك هيرتلينغ القائد السابق للجيش الأميركي في أوروبا، وخدم في العراق أيضاً، قد صرح قبل أيام قليلة لقناة «CNN» بأن الأوكرانيين الذين عملوا مع القوات الأميركية في العراق في عام 2004، كانوا «قوة فظيعة وقادة فاسدين غير منضبطين، وغير متحمسين، وسيئين؛ لأنهم تلقوا تدريباتهم من قادة روس؛ لكنهم أصبحوا اليوم قوة محترمة جداً»، وسبحان مغير الأحوال.
قد يجد بعض السياسيين أن الأوان قد فات على اختيار أوكرانيا الحياد الآن.